Category: Chapter2
Khan younis
مجزرة خان يونس:
تصادف في الثاني من تشرين الثاني من كل عام ذكرى مجازر 1956 التي ارتكبها الاحتلال في خان يونس إبان العدوان الثلاثي على مصر، وراح ضحيتها أكثر من 500 شهيد وشهيدة من أبناء شعبنا؛
وذلك بعد أربعة أيام من مذبحة كفر قاسم التي راح ضحيتها 49 شهيداً من الشيوخ والنساء والأطفال، وبعد ثلاثة وعشرين يوماً من مذبحة المركز في قلقيلية، لتتعانق أرواح هؤلاء الشهداء مع أرواح شهداء انتفاضة الأقصى، فاضحة تعطُّش الاحتلال للدم ومؤكدة على أن الصهاينة مستمرون في جرائمهم ومجازرهم التي كان آخرها مجزرة بيت ريما والتي راح ضحيتها عشرة شهداء، وعلى أن شعبنا لم يرفع الراية البيضاء وإنما يواصل مقاومته وجهاده رغم حجم التضحيات والضغوطات.
ويتذكر كبار السن والناجون مشاهد دامية من المجزرة التي تعكس وحشية الاحتلال واستهتاره بالأعراف والقيم الإنسانية، مجددين مطالبهم بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في المجزرة وغيرها من المجازر البشعة التي ارتكبت بحق شعبنا ومعاقبة المسؤولين عنها.
يروي الحاج عبد الرؤوف بدران، 103 أعوام، الذي يعتبر شاهداً على قرن فلسطيني مليء بالمآسي والتشرد، البدايات الأولى للمجزرة، عندما رفض الأهالي التسليم للقوات الإسرائيلية التي اجتاحت سيناء ورفح واحتلت غزة، وأصروا على المقاومة والدفاع عن المدينة، واستذكر كيف انهالت القنابل من الطائرات والدبابات على المساكن لإخماد المقاومة، وهو الأمر الذي أوقع العشرات من القتلى والجرحى، ودبت حالة من الهلع والرعب بين المواطنين، وهو ما مكّن جنود الاحتلال من اقتحام المدينة ليبدأوا عملية انتقام وحشية. وأضاف وهو يهتز بانفعال شديد متذكراً تلك الأيام السوداء: “لم نكن نتوقع أن تصل الوحشية إلى هذه الدرجة .. فكانوا يسوقون الرجال والشباب ويجمعونهم في الساحات العامة ثم يطلقون النار عليهم بلا رحمة”. وفقاً للباحث الدكتور محمد الفرا الذي وضع كتاباً حول خان يونس ماضيها وحاضرها، فإن جنود الاحتلال قاموا في العام 1956 بدخول المنازل دون استئذان أهلها وقاموا بكسر أبواب المنازل التي لم يفتحها سكانها بالسرعة المطلوبة، وكانوا يطلقون النار بلا هوادة أو رحمة على كل رجل أو فتى، على مرأى من والديه وإخوانه الصغار، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 500 شهيد فضلاً عن مئات الجرحى.
3-12-1- مذبحة الشيخ عمري
ويتذكر عبد المجيد “أبو محمد” الذي كان عمره إبان المجزرة 13 عاماً، كيف هجم جنود الاحتلال على منزلهم في منطقة القرار واقتادوه مع شقيقه الأكبر عبد الرحيم ومجموعة من الشباب إلى منطقة الشيخ عمري، مشيراً إلى أن أحد الجنود طلب منه الابتعاد عن المجموعة والعودة من حيث أتى، ليشاهدهم بعد ذلك يطلقون النار على الشباب الذين يبلغ عددهم حوالى 50 شاباً، وذلك بدم بارد ودون سبب،
فيبدأ الشباب المصابون بالسقوط مضرجين بدمائهم، فيما حاول بعضهم الهرب من المكان أو التظاهر بالموت، وبدأ التأثر على “أبو محمد” وهو يتذكر هذا المشهد المرعب، مشيراً إلى أنه سارع إلى الهرب من المكان والعودة إلى منزله وهو يرتجف رعباً من هول المشهد الذي شاهده. والتقطت أم العبد الكلام من ابنها -“أبو محمد”- مشيرة إلى أنها بعد سماعها تفاصيل الحدث، انطلقت دون وعي إلى المنطقة التي نفذت فيها المذبحة لتجد أن ابنها عبد الرحيم لفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن أصابته عدة رصاصات قاتلة، فيما كان حوله مجموعة من الشهداء والجرحى الذين يلفظون أنفاسهم الأخيرة، وتتذكر أم العبد التي ارتسم وجهها بتجاعيد الزمن وأهوال الأحداث، كيف واتتها الجرأة لتلبي رغبة الجرحى الأخيرة في الحصول على الماء، مشيرة إلى أن المواطنين بدأوا بعد ذلك بالتجمع ونقل جثث الشهداء ودفنها ومعالجة الجرحى .
3-12-2- مخطط إجرامي
وقال عبد القادر الأسطل الذي نجا من هذه المذبحة، إنه في صباح المجزرة بدأ الجنود بجمع شباب القرية حتى وصل العدد إلى ما يقارب الخمسين، ثم أمرونا بأن نصطف في طابور واحد، فأخبرنا الجنود بأنهم سيقتلون الأول في الطابور ثم يقوم الاثنان اللذان يليانه بحمله وإلقائه إلى جانب الطريق. وبالفعل، بدأ الجنود مخططهم الإجرامي، فاستشهد عشرة شباب، مشيراً إلى أن القتل لم يتوقف إلا بعد أن وصلت دورية إسرائيلية إلى المكان وتوجهت القوة إلى منطقة الشيخ عمري واقتحمت ديوان آل فياض وقتلت كل من وجِد فيه، لتسفر هذه المجازر عن قتل 25 شاباً، منهم عبد الرحيم عبد الغفور وعبد الله فياض ومحمد فياض وعبد العزيز فياض وعبد الرزاق فياض، وسليم الشامي وسلمان الشامي؛ ويعتبر الأسطل أنه آن الأوان لفتح ملف هذه المجزرة ومعاقبة المسؤولين عنها، داعياً المحامين إلى تبني مسؤولية المتابعة القانونية.
3-12-3- الشهداء يسبحون في دمائهم
من جانبه، وصف الناجي أبو يوسف عاشور، 75 عاماً، وحشية جنود الاحتلال في مجزرة ثانية وقعت في مخيم خان يونس وسقط فيها ثلاثون شهيداً، فيما أصيب هو بجراح لا يزال يعاني منها إلى الآن، مشيراً إلى أن الجنود هجموا على المنطقة وكسروا الأبواب وأخرجوا كل من يزيد عمره على خمسة عشر عاماً واتجهوا بنا إلى منطقة النادي، حيث تم تجميع الشباب هناك وتم إجبارهم على الاصطفاف في طوابير ثم انهال علينا الرصاص من كل الجهات، فسقط الشهداء؛ وتابع عاشور بتأثّر بالغ: “وقعت على الأرض من الرعب والخوف وتظاهرت بالموت” مشيراً إلى أن الجنود لم يتركوا المنطقة إلا وهي غارقة في بركة من الدماء .
3-12-4- دعوة للتحقيق في الجريمة
ويرفع عاشور صوته إلى جانب الأصوات المطالبة بالتحقيق في هذه الجريمة ومعاقبة المسؤولين عنها، مشيراً إلى أنه يسمع بين فترة وأخرى عن جهود لمتابعة القضية، ثم يتم تجاهلها بعد انقضاء الذكرى، مشدداً على أن الواجب يتطلب بذل جهد حقيقي بما يضمن حقوق ذوي شهداء وجرحى هذه المجزرة، خاصة أن مسلسل المجازر مستمر، ويمكن متابعة هذه القضايا كلها في المحاكم الدولية.
وعقّب د. كمال الأسطل رئيس قسم العلوم السياسية على مطالب الأهالي والناجين بقوله، إن المجازر تعتبر جريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي وفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة، وإنه من حق الشعب الفلسطيني أن يطالب بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في الجريمة التي راح ضحيتها المئات من المدنيين، وذلك بعد احتلال المدينة من الجيش الإسرائيلي، كما من حقه المطالبة بمعاقبة المتسببين في المجازر الحالية والمستمرة.
وتبقى هذه الشهادات الحية التي قدمناها صورة من الصور العديدة لتلك المجزرة البشعة ونموذجاً من التاريخ الأسود للاحتلال في المنطقة، التي تثبت اليوم أن شعبنا قادر على البقاء والتشبث بأرضه رغم محاولات التطهير والتشريد حتى يتمكن من إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
Kafr-Kasem
مجزرة كفر قاسم:
– في إطار استعداداتها للعدوان الثلاثي على مصر، اتخذت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إجراءات تشديد وقمع ومحاصرة شاملة للسكان العرب في المناطق المحتلة 1948، بحجة ضمان الأمن الداخلي خلال العدوان على مصر.
– وفي ليلة 28/10/1956 ، تمّ ضم فرقة من حرس الحدود إلى فرقة من الجيش الإسرائيلي، ووضعت القوة تحت إمرة المقدم يششكار شدمي.
– وفي صبيحة 29/10/1956 أبلغ قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال العميد “تصفي تسور” كل الضباط العاملين تحت إمرته، بالسياسة التي ستتبع ضد السكان العرب،
وشدد تسور على أن ضمان العمليات العسكرية التي ستنفذ في الجنوب (الهجوم على قطاع غزة وسيناء) يتطلب المحافظة على الهدوء التام في المناطق العربية، وطلب منه المقدم شدمي أن يلجأ إلى فرض حظر التجوال على القرى العربية في المنطقة – أي قرى المثلث – وتم إعطاء هذا التصريح. وفعلاً، تم إعلان حظر التجوال في كل القرى العربية : كفر قاسم ، كفر بره، جلجولية ، الطيرة الطيبة قلنسوه ، بير السكة ، ابطن ،
– وصدر الأمر العسكري الذي تم إعلانه على السكان العرب وهذا نصه: “لن يسمح لأي من السكان بمغادرة بيته خلال ساعات منع التجول .. من يترك بيته نطلق عليه النار، ولن يعتقل أحد”.
وأعلن المقدم شدمي: “أن حظر التجوال سيكون حازماً، وسيحافظ على تنفيذ هذه الأوامر بيد قوية، ليس من خلال الاعتقالات، وإنما بإطلاق النار”؛ وعندما سأل الرائد إبراهام هيلنكي قائده شدمي عن مصير المواطن العائد من عمله خارج القرية دون علم بفرض أمر منع التجول، أجابه المقدم شدمي: “لا أريد عواطف .. الله يرحمه”.
وهكذا قام الرائد هيلنكي مزودا بالأوامر والتعليمات بعقد اجتماع في مقر قيادته حضره كل الضباط المنضوين تحت إمرته، ونقل لهم هذه الأوامر، وأجاب على تساؤلاتهم بصراحة ومن ضمن ما قاله لهم:
” يجب قتل كل من يوجد خارج البيت بإطلاق النار عليه، ولن يكون هناك معتقلون، وإذا حدث في الليل وسقط بعض القتلى، فهذا سيخفف من أعباء فرض منع التجول في الليالي القادمة “.
– وبعد ذلك جرى توزيع فرق من الجنود على قرى المثلث، وتوجهت قوة بقيادة الرائد غبرائيل دهان إلى قرية كفر قاسم، حيث قام بتوزيع جنوده إلى أربع مجموعات، اتخذت مواقعها على مداخل القرية وفي داخلها.
– وفي الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم 29/10/1956 وقبل نصف ساعة من بدء فرض حظر التجول حسب ما أعلن، استدعى رقيب من حرس الحدود مختار قرية كفر قاسم وديع أحمد صرصور وأبلغه بأمر منع التجول، وعندما أخبره المختار أن هناك حوالى 400 مواطن من أهالي القرية لا زالوا في أماكن عملهم خارج القرية وفي أراضيهم، وأنه لا يمكن تبليغهم بأمر منع التجول في فترة نصف ساعة، وعده الرقيب بالسماح بمرور العمال العائدين إلى القرية وأن الأمر سيكون على مسؤوليته ومسؤولية الحكومة.
– وفي الساعة الخامسة، وهو موعد عودة العمال والمزارعين العرب إلى القرية، بدأت المذبحة؛ إذ كانوا يعودون أفراداً وجماعات على الدراجات أو عربات الخيول أو في السيارات، وكان الجنود يستقبلونهم على مداخل القرية، ثم يأمرونهم بالوقوف والترجُّل، ثم يسألونهم : “من أي قرية أنتم؟” وبعد الإجابة “من كفر قاسم”، كان الضابط يأمرهم بالوقوف صفاً واحداً ويصدر لجنوده أمراً بإطلاق النار عليهم بقوله: “احصدوهم”.
وكان الرائد دهان يشترك مع جنوده في إطلاق النار على العائدين إلى القرية، وكان الجنود بعدها يكدسون الجثث (وبعض الجرحى) على قارعة الطريق، وخلال ساعة واحدة قامت هذه الفرقة من حرس الحدود بقتل حوالى خمسين عربياً من أبناء القرية منهم: 31 من الشباب والرجال، و9 نساء بين شابات ومسنّات، و7 أولاد وبنات.
3-11-1- شهادات ميدانية
– وفي وصفها لما حدث بعد المجزرة بأسبوع، قالت إحدى المسنّات من أهالي كفر قاسم والتي استدعيت للتعرف على جثة زوجها، وكيف أن أهالي القرية مُنعوا من دفن موتاهم: “لقد أحضروا أشخاصاً من قرية جلجولية لدفن الموتى بشكل عشوائي، ومن بين التراب كانت تظهر أيدي وأرجل ورؤوس”.
– ويقول المواطن عبد الرحيم عيسى الذي كان يبلغ الخامسة عشرة من عمره آنذاك، واصفاً ما شاهده من المذبحة: “في الساعة الخامسة بالضبط كما أذكر، فرضت قوات الاحتلال حظر التجوال على قرى المثلث، أي قبل إعلان العدوان على مصر بدقيقة واحدة، وكانت الأجواء متوترة، إذ إن الفدائيين يقومون بعمليات ضد قوات جيش الاحتلال؛ وأُخضِعَت القرى العربية للحكم العسكري وحالة الطوارئ. وفي ذلك اليوم – يوم المذبحة – تم تقديم موعد حظر التجوال – عن سبق إصرار وتخطيط – في حين كان جنود الاحتلال يعلمون أن عدداً كبيراً من العمال والمزارعين العرب لم يعودوا إلى بيوتهم”.
– ويقول المواطن خضر محمود بدر: “لقد توقفت إلى جانب الطريق، ووقف إلى جانبي ثلاثة عمال من عمال الكسارات، وفجأة سألنا أحد الجنود: من أين أنتم؟ وعندما سمع الرد بأننا من كفر قاسم تراجع إلى الوراء قليلاً: ” احصدوهم “؛ وكانت النيران كثيفة جداً، وفجأة سقط فوقي بعض الأشخاص وتقدم الجنود نحونا، وبدأوا يرموننا من فوق الجدار، وصرخ ابن عم والدي الذي كان قريباً مني: أطفالي، أطفالي، ولكن أحد الجنود عاجله بتحطيم رأسه، وأنا لم أشعر بشيء، لقد حاولت أن أتقدم ولم أستطع، فقد أصبت بساقي .. وقد قتل اثنان من العمال الثلاثة فوراً، أما الثالث فتظاهر بالموت ونجح في الاختفاء بين قطيع من الماشية، والوصول تحت ستاره إلى القرية “.
ويتابع المواطن بدر قائلاً: “لقد حاولت التقدم بمساعدة يدي، وكنت طوال الوقت أسمع صرخات فظيعة، وفجأة لا أعرف من أين جاءتني القوة فأمسكت بغصن ضجرة زيتون وتسترت بها، وكنت أسمع باستمرار دوي الرصاص وأصوات الصراخ، وكان جهاز الاتصال في أيدي الجنود يكرر دون توقف: “قتلنا عشرة من العرب .. قتلنا .. قتلنا ” .
– ويقول المواطن صلاح خليل عيسى الذي كان في الثامنة عشرة من عمره آنذاك: “وصلت إلى الحاجز العسكري شاحنة مليئة بالعمال العرب .. فسمحوا لها بالمرور وهي على بعد بضعة أمتار منهم، أطلق الجنود نيراناً كثيفة باتجاه من في داخلها، وكنت أنا أشاهدهم من إحدى البساتين القريبة”؛ وقد قتل نتيجة لذلك ثلاثة عشر مواطناً عربياً، وأصيب عدد آخر بجروح، أما أنا فقد أصبت في يدي وساقي، وبعد قليل وصل بعض العمال العرب، فسمعت أحد الجنود يصرخ قائلاً: “احصدوهم”، وسقط بعضهم على الأرض، وبعد حوالى ربع ساعة وصلت شاحنة أخرى كانت تقل 19 عاملاً عربياً تقريباً، فأنزلوهم جميعاً من الشاحنة وأوقفوهم صفاً واحداً وأطلقوا النار عليهم مرة واحدة بكثافة، وبدأ الجنود يجرون الجثث وأنا تظاهرت بأني ميت فسحبني أحد الجنود ورماني فوق الجثث، وبصمت وهدوء كبير زحفت إلى شجرة زيتون قريبة وصعدت على أحد فروعها العريضة وبقيت حتى الصباح “.
– ويتحدث المواطن عبد الرحيم عن المذبحة قائلاً: “كنت آنذاك في السابعة عشرة من عمري، وكنت أعمل في أرضنا، وفي المساء نفسه سمعنا أصوات الرصاص فاعتقدنا أن هناك إطلاق نار على الحدود الأردنية، ولم نعلم أنهم فرضوا حظر التجوال، فأرسل والدي أحد أشقائي ليستدعيني، وعدنا على ظهر شاحنة. وعلى مدخل القرية، حيث نصب الجنود الحاجز العسكري، توقفت الشاحنة وصعد بعض الجنود وأخذوا يطلقون النار علينا، فارتمينا جميعاً على بطوننا وبدأ الجنود يسألوننا من أين أنتم وأين كنتم؟ ولم ينتظروا الرد، وأنزلونا جميعاً وأوقفونا صفاً واحداً، وفجأة أصدر قائد الحاجز أمراً للجنود قائلاً: “احصدوهم”. وكان شقيقي يقف خلفي، فضغط على بطني، وعندما أطلقوا النار باتجاهنا سقطنا معاً على الأرض، واستمر شقيقي يضغط علي وأصبت أنا بساقي اليسرى، وبدأ الجنود يمرون علينا واحداً واحداً لفرز الحي من الميت فينا، فتظاهرتُ بالموت، عندها وصل أحد الجنود عندي وقد تحركت ساقي المصابة، وفجأة بدأ شقيقي يهدئني، وأنا أردت أن أوقفه عن الحديث بواسطة يدي، فأطلق الجنود على يدي وبدأ شقيقي يصرخ؛ حينها، أطلقوا النار على رأسه، فخرجت الرصاصات من الجانب الآخر وصمت. وبعد أن كانت يده تضغط على بطني شعرت بأنها ارتخت وسقطت تماماً.
– وبعد حوالى نصف ساعة وصلت سيارة تقل فتيات عربيات، وفجأة قالت إحداهن: “ها هم على الأرض”، فأوقف الجنود الفتيات على بعد حوالى خمسين متراً، وبدأوا يتحدثون معهن ثم أطلقوا النار عليهنّ فقتلوهن، وبعد مرور الوقت، استيقظت، فوجدت نفسي في المستشفى.
3-11-2- المحكمة المسرحية
كانت هذه شهادات ميدانية لبعض المواطنين العرب الذين نجوا من تلك المذبحة الرهيبة بأعجوبة، وقد هزت هذه المذبحة كافة السكان العرب في مختلف أنحاء الوطن المحتل، والرأي العام العربي.
أما على صعيد الكيان الصهيوني، فقد أمر رئيس الوزراء في حينه دافيد بن غوريون بتشكيل ما أسماه بلجنة تحقيق “شكلية” لامتصاص نقمة السكان العرب والرأي العام، ولم تصدر سلطات الاحتلال بياناً رسمياً حول المذبحة إلا يوم 12/11/1956.
ولم تذكر في هذا البيان عدد المواطنين الذين قتلوا برصاص الجنود.. وأجرت لجنة التحقيق المذكورة تحقيقها الصوري وأوصت في ختامه بتقديم مرتكبي المذبحة للمحاكمة، ولكنها لم تنشر أسماءهم، وطالب موشيه ديان بعقد جلسات مغلقة للمحاكمة. وفي كانون الثاني من العام 1957، أي بعد المذبحة بحوالى شهرين، بدأت “محاكمة كفر قاسم”، فقُدِّم أمام المحكمة 11 ضابطاً وجندياً من حرس الحدود وكان على رأسهم المقدم “يششكار شدمي” الذي اعتبر المتهم الأول، الرائد “غبرائيل دهان” المجرم الثاني.
واستمرت محاكمتهم حوالى سنتين كاملتين، وفي النهاية أصدرت المحكمة المسرحية التي عقدت لنفث سموم الحقد والعنصرية ضد العرب، أحكاماً بدت ظاهرياً قاسية لإسكات الرأي العام العربي والعالمي، وكانت كالتالي:
– حكم على الرائد شموئيل ميلنكي بالسجن 17 عاماً بتهمة قتل 43 مواطناً عربياً من كفر قاسم.
– وحكم على الرائد دهان بالسجن لمدة 15 عاماً بتهمة قتل 22 مواطناً عربياً.
– وحكم على الجندي شالوم عوفر بالسجن 15 عاماً بتهمة قتل 22 عربياً.
– وحكم على الجنديين مخلوف حروش والياهو إبراهام بالسجن سبع سنوات لكل منهما بتهمة قتل 22 عربياً.
– وغير ذلك من الأحكام الصورية التي صدرت ضد عدد من الجنود.
– أما المقدم شدمي، المجرم الأول، فقد قررت المحكمة تغريمه بمبلغ “عشرة أغورات” – أي ما يعادل قرشاً واحداً فقط – بتهمة قتل كل المواطنين العرب الذين سقطوا في مذبحة كفر قاسم.
وبعد مرور وقت قصير، استأنف المحكومون الصهاينة الأحكام لدى المحكمة العليا التي خففتها،
فخفضت حكم ميلنكي إلى 14 عاماً، ودهان إلى 10 أعوام، وباقي المتهمين إلى 3 أعوام.
وبعد ذلك جاء رئيس الأركان حينها حاييم لاسكوف وخفف أحكامهم مرة أخرى.
ولم يمض عام واحد منذ صدور الأحكام ضدهم، إلا وأطلق سراحهم جميعاً من السجن، الأمر الذي يذكّرنا هنا بما يجري ويقترف في هذه الأيام من جرائم حرب ضد الفلسطينيين.
ولاستكمال المهزلة، قامت بلدية الرملة بتعيين الرائد دهان، بعد إطلاق سراحه بثلاثة أشهر، في منصب المسؤول عن الشؤون العربية في بلدية الرملة.
3-11-3- تخليد ذكراهم
أما أهالي كفر قاسم ومختلف مدن وقرى فلسطين المحتلة، فقد حرصوا على إحياء ذكرى شهداء تلك المذبحة المروعة، كما حرصت الجماهير العربية على إحياء القضية الفلسطينية باستمرار وتأكيد وحدة المصير والمعاناة والموقف والنضال بين كافة أبناء الشعب العربي الفلسطيني. كما يتجلى هذا المضمون في أنحاء الوطن المحتل في ظل مسيرة التصدي والصمود المستمرة ضد الاحتلال.
Kalkelya
مجزرة قلقيلية:
كان إحساس سكان قلقيلية، قضاء طولكرم، بالخطر الصهيوني مبكراً، فقد أخذوا، مع صدور قرار التقسيم، بالاستعداد للدفاع عن قريتهم وجمعوا مبالغ كبيرة من المال واشتروا بها السلاح والذخيرة، وتعاون أهالي القرية على حماية أنفسهم وأرضهم وخاضوا معارك كثيرة.
لم تنقطع الاشتباكات بين عرب قلقيلية والقرى القريبة منها والعدو الصهيوني رغم توقيع اتفاقيات الهدنة، ولم يكتم الصهاينة رغبتهم في تدمير القرية، وهدد موشيه ديان في حزيران 1953 قائلاً (سأحرث قلقيلية حرثاً).
في الساعة التاسعة من مساء ذلك اليوم، تسللت إلى قرية قلقيلية مفرزة من الجيش الإسرائيلي تقدر بكتيبة مدرعات تساندها كتيبتا مدفعية ميدان ونحو عشر طائرات مقاتلة، فقطعت الأسلاك الهاتفية ولغمت بعض الطرق، في الوقت الذي تحشدت فيه قوة كبيرة في المستعمرات القريبة.
في الساعة العاشرة من مساء اليوم نفسه، تحركت القوات وهاجمت القرية من ثلاثة اتجاهات مع تركيز الجهد الرئيس بقوة كتيبة المدرعات على مركز الشرطة فيها.
بعد نحو ساعة، عاد المعتدون إلى الهجوم بكتيبة المشاة تحت حماية المدرعات، بعد أن مهدوا للهجوم بنيران المدفعية الميدانية، ورغم ذلك فشل الهجوم أيضاً.
شعر سكان القرية أن هدف العدوان هو مركز الشرطة، فزادوا قوتهم فيه وحشدوا عدداً كبيراً من المجاهدين هناك، ولكن المقاتلين تكبدوا خسائر كبيرة عندما عاودت المدفعية القصف، واشتركت الطائرات في قصف القرية ومركز الشرطة بالقنابل؛ وفي الوقت نفسه، هاجم الصهاينة مرة ثالثة بقوة، وتمكنوا من احتلال مركز الشرطة، وتابعوا تقدمهم عبر شوارع القرية مطلقين النار على كل من يصادفونه، واستشهد نحو سبعين مقاتلاً من سكان قلقيلية والقرى المجاورة الذين هبوا لنجدتهم.
وكانت وحدة من الجيش الأردني، ترابط قرب المنطقة، قد تحركت للمساعدة في التصدي للعدوان، ولكنها اصطدمت بالألغام التي زرعها الصهاينة، فدُمِّرَت لها مصفحة وسيارتان كبيرتان، واشتبكت مع وحدات العدو وقصفت المدفعية الأردنية العدو وكبدته خسائر، وانسحب العدو بعد أن دمر القرية وعاث فيها فساداً.
Kibya
مجزرة قبية:
في السابعة والنصف من مساء 14/10/1953، تحركت قوة يهودية قوامها 600 جندي نحو قرية قبية (غرب رام الله) وطوقتها وعزلتها عن سائر القرى العربية، حيث بدأ الهجوم بقصف مدفعي مركز وكثيف على مساكن القرية دون تمييز حتى وصول القوة الرئيسة إلى تخوم القرية، في حين توجهت قوات أخرى إلى القرى المجاورة مثل شقبا وبدرس ونعلين، لمشاغلتها ومنع تحرك أي نجدة نحو قبية، كما زرعت الألغام على مختلف الطرق، فعزلت القرية تماماً.
وقد دخلتها القوات اليهودية وهي تطلق النيران في مختلف الاتجاهات. وفيما كانت هذه القوات تقتل السكان، كانت وحدات المهندسين العسكريين الإسرائيلية تضع شحنات متفجرة حول بعض منازل القرية وتفجرها على من فيها، فيما تولى المشاة قتل كل من يحاول الفرار من السكان.
استمرت العملية الوحشية حتى الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي، فانسحبت القوات المعتدية إلى نقاط انطلاقها ونجم عنها تدمير 56 منزلاً ومسجد القرية وخزان المياه الذي يغذيها بالماء؛ فيما استشهد 67 من سكانها رجالاً وأطفالاً ونساءً، وسقط عدد كبير من الجرحى وأبيدت أسرة كاملة.
3-7-1- شارون – سفاح قبية
روى محمد المسلوت قصة المجزرة التي ارتكبها رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون بحق قريته قبية وعائلته عندما كان مسؤولاً عن الكتيبة 101 التي قامت بنسف بيوت في القرية على رؤوس نحو 78 فلسطينياً، معظمهم من النساء والأطفال.
وتحدث محمد عبد الله صالح المسلوت، من قرية قبية الحدودية مع الخط الأخضر، الذي شرع هو و46 عائلة فلسطينية بدعوى قضائية ضد شارون لتقديمه إلى المحاكمة في بلجيكا بتهمة ارتكاب مجزرة في هذه القرية.
وقال المسلوت الذي غطى الشيب رأسه، وعلامات الأسى تبدو على ملامح وجهه القمحي: “هل أنسى.. وكيف أنسى بعد 48 سنة ويومين زوجتي الحامل في شهرها التاسع وطفلي شعبان (5 سنوات) وميسر (7سنوات) الذين سيبقون معي طالما أنا موجود على قيد الحياة؟ “.
وأضاف: “كان موسم الزيتون في قريتنا، بيننا وبين الحدود الإسرائيلية شريط شائك، عندما دخل الجنود الإسرائيليون من الجهة الغربية للقرية مع بغال تحمل على ظهرها الألغام والذخيرة، وقد حدوها بالكاوتشوك حتى لا تسمع حركتها وجلبتها”.
وتابع: “كانت الساعة السابعة مساء، شاهدهم أحد حراس الزيتون، فقاموا بقتله وأوثقوا رباط الحارس الثاني الذي أفلح بالهرب، لكنهم تابعوه بزخات من الرصاص، فأصابوه في ساقه وزحف باتجاه القرية لإعلامها بالاقتحام الإسرائيلي، فصدقه بعضهم ولم يصدقه بعضهم؛ وفرّ من وثق بكلامه إلى الجبال”.
وأكد المسلوت: “لقد هربت من البيت معتقداً بأن الجيش الإسرائيلي لن يقترب من النساء. صباحاً، كانت معظم بيوت القرية منسوفة فوق رأس من بقي فيها، وبأعجوبة كبيرة نجا القليل منهم”.
واقتحمت الكتيبة 101 التي كان يترأسها حينذاك أرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، القرية الحدودية في 14 تشرين الأول 1953 في “عملية انتقامية لتلقين قرية قبية درساً” بحجة أن الفدائيين الفلسطينيين قد تسللوا منها وقتلوا أحد حراس القرى الزراعية الإسرائيلية حديثة الإنشاء في ذلك الوقت.
وأنكر شارون طوال الوقت أنه كان على علم بوجود أناس داخل البيوت التي نسفت في قرية قبية، التي وصل عدد القتلى فيها إلى 69 شخصاً حسب المصادر الفلسطينية، وأكد في سيرته الذاتية ومقابلاته “أنه نسف البيوت معتقداً أنها خالية من السكان”.
وقال المسلوت: “قدم كل سكان القرى المجاورة لقريتنا لنجدتنا في اليوم التالي للمذبحة، لقد أخرجوا من استطاعوا إخراجهم من تحت الأنقاض، ودفنوا الآخرين في بئر البيت المنسوف، على غرار ما حصل لعائلة أبو قادوس التي تعدّ 13 شخصاً، لم يبق منهم أحد على قيد الحياة”.
وعلى مدخل قرية قبية من الجهة اليمنى أرض فسيحة تحيط بها شجيرات الصبار وتملأها الأعشاب البرية ويتجنب الأطفال اللعب فيها أو الاقتراب منها، وهم يشيرون بأصابعهم ويرددون كلمات حفظوها عن ظهر قلب “مقبرة أبو قادوس الجماعية، قتلهم شارون”.
وقالت فطيم المحمود زوجة المسلوت الثانية: ” يجلس زوجي في بعض الأحيان ويجهش بالبكاء، ولا يحب أن يتحدث عن عائلته التي قضت في المجزرة، ولكنه كلما تذكر ما حدث له تنهمر دموعه بلا توقف بالرغم من أنه يكابر، ولكنه كلما تذكر عائلته يبكي كطفل بحرقة ولوعة”.
ويشعر معظم الرجال في قرية قبية بالذنب لأنهم تركوا نساءهم عرضة للموت دون الذود عنهم؛ وقال المسلوت: “كان يجب علينا أن لا نترك نساءنا وأطفالنا في البيوت وحدهم؛ إننا نشعر جميعاً بالذنب ولكن لم يكن لدينا سلاح لندافع به عن أنفسنا”.
وأكد المسلوت: “لم أنم لمدة 21 يوماً. لقد همت في الجبال لسنوات قبل أن أعود إلى القرية”.
وأشار إلى أنه غير متأكد من أن مقاضاة شارون ستقدم له أي شيء، فالعالم ما زال يتغاضى عن جرائمه الحالية، فكيف سيعاقبونه عما اقترفت يداه في الماضي؟! لكنه عاد واستدرك: “ربما يحدث شيء، فالله أقوى من شارون”.
وقرية قبية يسكنها نحو 4500 فلسطيني، يعتمد معظمهم على العمل في فلسطين 48، وصودرت معظم أراضيها؛ وقال حسن أحمد راغب رئيس مجلس القرية، إن أراضي القرية كانت تمتد على مساحة 200 كلم مربع، اقتطع جزء منها لإقامة مطار اللد عليه وجزء آخر لإقامة معسكرات وملحقات ومستوطنات.
واعتبر رئيس المجلس: “أن المجازر الإرهابية كانت نهجاً إسرائيلياً لتشريد الناس من أرضهم ومن المنطقة بأكملها، لقد رحل نصف سكان قريتنا إلى مدينة الزرقاء في الأردن بعد المجزرة “.
وتصنف قرية قبية حسب اتفاقيات أوسلو الموقَّعة في 13 أيلول 1993 بمنطقة (سين وباء) أي أنها تخضع لكامل السيطرة الأمنية الإسرائيلية.