Tantora

مجزرة الطنطورة – مقبرة جماعية:

تقع قرية الطنطورة إلى الجنوب من مدينة حيفا، وتبعد عنها 24 كم وترتفع 25 كم عن سطح البحر، وتقوم القرية على آثار (دور) الكنعانية وتعني المسكن، وتبلغ مساحة أراضيها 14520 دونماً وتحيط بها قرى كفر لام، الفريديس، عين غزال، جسر الزرقاء، وكبارة؛ قُدِّر عدد سكانها سنة 1929 بحوالى 750 نسمة، وفي العام 1945 بحوالى 1490 نسمة.

بتاريخ 23/5/1948, تعرضت القرية إلى مجرزة راح ضحيتها 230 فلسطينياً، وفقا لما قاله المؤرخ الإسرائيلي تيدي كاتس في دراسة الماجستير في جامعة حيفا في العام 1998.

وتعرضت القرية إلى الهدم و تشريد أهلها البالغ عددهم 1728 نسمة في العام 1948، إلى الفريديس والبلدات المجاورة وكذلك إلى الضفة الغربية والأردن وسوريا والعراق وأماكن أخرى.  أصدرت الأمم المتحدة القرار رقم 194 الصادر في العام 1948 الخاص بحق العودة والتعويض، ويشمل ذلك المقيمين في الفريديس والبلدات المجاورة، وفقا للقرار الأممي.

ووفق أحداث ومعطيات وتفاصيل المجزرة التي نفذتها القوات الصهيونية ضد أهل قرية الطنطورة، فإن بشاعة هذه المجزرة تفوق مجزرة دير ياسين وغيرها، إذ كان الجنود الصهاينة متعطشين للدم والضحايا الذين أجبروا على حفر قبورهم بأيديهم، وتحولت الشوارع إلى”جبل موت” ووصل القتل بالقنابل إلى داخل البيوت، ونفّذت الإعدامات الميدانية ضد المواطنين جماعات جماعات.

وتكشف الشهادات الحية عن هذه المجزرة، النقاب عن أبشع أشكال الإرهاب الدموي الصهيوني ضد الفلسطينيين.

وتأتي أهمية التشديد على أحداث وتفاصيل هذه المجزرة، في أن الباحث الذي كشف النقاب عنها هو باحث إسرائيلي يدعى تيدي كاتس وهو محاضر في جامعة حيفا، وقد تعرّض إلى مطاردات وتهديدات بالقتل، كما قدم للمحكمة الإسرائيلية.

نقدم في ما يلي تفاصيل هذه المجزرة المروعة التي نفذت في 23 أيار / 1948 كما جاءت في دراسة الدكتور كاتس الذي كشف عنها بعد 52 عاماً على اقترافها.وقد نشرتها صحيفة معاريف العبرية بالكامل كما يلي :

هذه المشاهد لن ينساها فوزي محمود أحمد طنجي ( أبو خالد ) أبداً، فلغاية اليوم (وبعد مرور 52 عاماً وهو تاريخ توثيق شهادته)، تجتاح جسمه قشعريرة عندما يتذكر كيف ذبح أبناء عائلته وأصدقاؤه أمام عينيه .. “أخذونا إلى مقبرة القرية وهناك أوقفونا في صفوف، جاء قائد اليهود وقال مخاطباً جنوده “خذوا عشرة”، وقد انتقوا منا عشرة واقتادوهم إلى مكان بالقرب من شجيرات الصبار، وهناك أطلقوا النار عليهم. بعد ذلك عادوا وأخذوا عشرة آخرين، كان عليهم أن يخلوا الجثث ليتم بعد ذلك إطلاق النار عليهم أيضاً.  وهكذا تكرر ذلك تباعاً … لقد أطلقوا رصاصهم على المزيد من الناس بالطريقة نفسها “.

ويضيف أبو خالد: “هؤلاء الجنود الذين لن أنسى ملامح وجوههم ما حييت، بدوا لي مثل ملائكة الموت. عندما وقفت هناك، كنت واثقاً بأنها اللحظات الأخيرة في حياتي، وأنهم سيأتون بين لحظة وأخرى ليأخذوني أيضاً ويطلقوا النار علي.  كان من واجب اليهود أن يتعلموا ويأخذوا العبرة مما فعله الألمان (النازيون) لهم، لا أعرف لماذا فعلوا بنا ما فعله الألمان بهم! “.  وينفجر العجوز أبو خالد البالغ من العمر 74 عاماً والمقيم اليوم في طولكرم فجأة ليجهش بالبكاء وهو يقول: ” كان من الأفضل لو أنني مت هناك دون أن أحمل معي هذه القصة حتى اليوم”، يبدو أن التاريخ والمؤرخين الإسرائيليين لحرب العام 1948 آثروا حتى الآن تجاهل هذا الفصل القائم في ” حرب 1948 ” .

المتورطون أو الضالعون في هذه القضية القائمة (مذبحة قرية الطنطورة)، مرتكبوها اليهود، والعرب الناجون منها آثروا كتمانها عميقاً في صدورهم .. بحث جديد فقط اكتمل إعداده في جامعة حيفا، يحاول كشف حقيقة ما حصل في أثناء احتلال القوات الإسرائيلية لقرية “الطنطورة” العربية في شهر أيار (مايو) من العام 1948.

كان رزق عشماوي (أبو سعيد)، الذي يسكن اليوم في قرية “الفريديس”، وقت وقوع المذبحة، فتى عمره 13 عاماً… وفي ورشة (كراج) للمعدات يمتلكها، تذكر “أبو سعيد” تلك الأحداث: “على مسافة قريبة من مسجد القرية، كانت ثمة باحة بالقرب منها، أوقفوا الشبان على امتداد جدران البيوت… كان ثمة طابور يضم حوالى 25 شخصاً، صُفَّت خلفهم أيضاً فتيات… وقف مقابلهم حوالى عشرة أو اثني عشر جندياً، وعندئذ قام هؤلاء الجنود بكل بساطة بإطلاق النار على الشبان، الذين خرّوا قتلى في المكان.. أما الفتيات فسمح لهن، حسب أوامر الجنود، بالذهاب ليمضين في طريقهن”.

يتذكر “عشماوي” كيف ذهب مع جندي يهودي لجمع الخبز من أجل أولاد آخرين .. ” في وقت إطلاق النار منعني الجندي من مواصلة السير إلى أن انتهى إطلاق النار، وبعد ذلك واصلنا جمع الخبز وعدنا إلى شاطئ البحر.  عندما عدنا مررنا مجدداً بالقرب من جثث قتلى، حينها شاهدت مجموعة أخرى، ربما 40 أو 50 شخصاً صلبوا على الجدران، أطلق الجنود النار عليهم بالطريقة نفسها .. وفي وقت الانتظار، عندما صوَّب الجنود سلاحهم نحونا حاولت، كل واحدة من الأمهات أن تغطي بقدر ما تستطيع على أبنائها حتى يطلقوا النار عليها وليس عليهم… حاول أحد الأطفال مناداة أمه مستنجداً لكن الجنود أطلقوا النار عليها وأردوها قتيلة… كدنا نفقد أمي في ذلك اليوم .. فعندما هممنا بمغادرة شاطئ البحر باتجاه المقبرة حصل شيء لأمي .. لقد أصيبت من شدة الخوف بشلل فجائي في ساقيها، ولم تعد قادرة على المشي .. لم نستطع جرها، وحاولنا التوسل للجنود كي يأخذونا بالسيارة، قال لنا الجنود: “لا داعي، سنطلق النار عليها ونريحكم منها”، نشأ جدل بين الجنود وتمكن بعضهم بصعوبة من منع قتل أمي”.

ويقول عشماوي (أبو سعيد) إن المذبحة خلّفت حسب معلوماته أكثر من 90 قتيلاً دفنوا في حفرتين للشبان وحفرة صغيرة للفتيات .. ويتذكر أبو سعيد أيضاً جثة رجل كانت ملقاة في الشارع، وكيف أخذت زوجته وبناته يولولن عليه، وكيف أن أحد الجنود أراد الإجهاز على الأم وبناتها، فتوسلت المرأة كي يسمحوا لها على الأقل بأن تزيح جثة زوجها جانباً من حرارة الشمس، وهو ما مكنوها في نهاية الأمر من أن تفعله.

2-9-1- مطاردة دموية بحثاً عن الرجال البالغين

ثيودور (تيدي) كاتس (56 عاماً) عضو كيبوتس “مغيل”… يعمل في مركز للقرى (المستوطنات) التعاونية في الحركة الكيبوتسية الموحدة التابعة لحركة “ميرتس” اليسارية، والذي أعد البحث في إطار تقدمه للحصول على اللقب الجامعي الثاني (الماجستير) من جامعة حيفا.

عمل وتجول طوال سنتين حتى تمكّن من “الوصول للأشخاص الذين وُجِدوا في تلك الليلة الواقعة بين 22 و23 أيار 1948 في قرية الطنطورة .. تحدث “كاتس” مع مشردي القرية، بعضهم يسكن اليوم في قرية فريديس وبعضهم الآخر طرد وهُجِّر إلى خارج البلاد، (يقيم جزء منهم حالياً في مخيم “اليرموك” قرب دمشق)، تحدث مع هؤلاء كما تحدث مع جنود لواء ” الكسندروني” من الكتيبة 33 (التي عرفت آنذاك باسم “كتيبة السبت” لأنه كان يُلقى على عاتقها في كل نهاية أسبوع إبان حرب العام 1948 مهمة جديدة)، وهم الذين شاركوا في معركة احتلال قرية الطنطورة. كما تحدث الباحث مع سكان بلدة “زخرون يعقوب” الإسرائيلية المجاورة لموقع القرية، التي لم يتبق منها سوى أطلال عدد قليل من المباني الحجرية القديمة .. كذلك استند “كاتس” في إعداد بحثه إلى معاينة وثائق في أرشيف الجيش الإسرائيلي ..

 وقد توصل كاتس في بحثه إلى نتيجة قاطعة مفادها أن ما حصل في قرية الطنطورة في تلك الليلة من شهر أيار من العام 1948 كان “مذبحة على نطاق جماعي”.

ويكتب كاتس في بحثه: “في الليلة الواقعة بين 22 و23 أيار 1948، وفي صبيحة اليوم التالي، هاجمت كتيبة 33 التابعة للواء الكسندروني قرية طنطورة .. احتلت القرية بعد عدة ساعات من تبادل لإطلاق النار الذي كان ضارياً جداً في قسم من مناطق القتال، ولكن في ساعات الصباح الباكر كانت القرية كلها قد سقطت في يد الجيش الإسرائيلي.

حسب إفادات أكثر من عشرين شخصاً من لاجئي طنطورة، وكذلك إفادات قسم من جنود اللواء، انهمك الجنود لعدة ساعات في مطاردة دموية شرسة لرجال بالغين بهدف قتلهم .. في البداية أطلقوا النار عليهم في كل مكان صادفوهم فيه في البيوت وفي الساحات وحتى في الشوارع .. وبعد ذلك أخذوا يطلقون النار بصورة مركزة في مقبرة القرية”.

في عملية احتلال قرية “طنطورة” قتل 14 جندياً من لواء الكسندروني، وفي المقبرة التي دفنت فيها جثث القتلى من أهالي القرية في قبر جماعي، أقيمت لاحقاً ساحة لوقوف السيارات كمرفق لشاطئ “دور” على البحر المتوسط جنوب حيفا.  يقول عدد من مشردي القرية بألم وحزن: “لقد حُرِمنا حتى من زيارة أقاربنا الذين دفنوا في هذه المقبرة”، أما “أبو خالد” فيأتي بين فترة وأخرى لزيارة أطلال قريته، وحينها يجثو على الأرض ويجهش بالبكاء.

2-9-2- أطلقوا عليهم النار فسقطوا قتلى في الحفر

–          يقول أبو خالد: “جمعونا بالقرب من شاطئ البحر، الرجال على حدة والنساء على حدة، ووضع الأولاد والشبان الذين تبلغ أعمارهم من 12 عاماً فما فوق مع الرجال، بينما وضع الأصغر منهم سناً مع الفتيات، بعد ذلك انتقوا سبعة أو عشرة من الرجال وأحضروهم إلى مكان قريب من مسجد القرية، وهناك أطلقوا عليهم النار .. ثم عادوا واقتادوا مجموعة أخرى ليصل العدد في النهاية إلى ما يقارب تسعين شخصاً.. مع كل مجموعة كانت تذهب مجموعة من الجنود، بينما كان أهالي القرية يقفون ويشاهدون ما يجري .. بعد ذلك، أخذوا كل من تبقى إلى المقبرة وأوقفوهم هناك وهموا بإطلاق النار على الجميع.. عندئذ وصل حوالى خمسين أو ستين شخصاً من سكان كيبوتس “زخرون يعقوب”، “وفي اللحظة التي رأوا فيها ما يحدث تدخل عدد من كبار المسؤولين منهم وأوقفوا المذبحة وقالوا: كفى .. “.

–          شهادة مماثلة سمعها اللواء عبد الرزاق اليحيى (أبو أنس) أحد كبار قادة أجهزة الأمن الفلسطينية من أبناء عائلته، وهو من مواليد قرية “الطنطورة”، وكان يعيش في ذلك الوقت في سوريا .. وقد سمع “أبو أنس” قصة المذبحة من إخوة له .. وقد أخبر أبو أنس الباحث كاتس قائلاً: “جمعوا كل الرجال في المقبرة ثم أخذوهم في مجموعات تتكون كل مجموعة منها من ستة إلى سبعة أشخاص .. وقد أرغمت كل مجموعة على حفر حفرة في الرمال؛ وفي اللحظة التي أنـهوا فيها عملية الحفر قام الجنود بإطلاق النار عليهم، فسقط الرجال قتلى داخل الحفر، بعدها انتقل الجنود إلى مجموعة أخرى، وهكذا دواليك…

في لحظة ما وقف اثنان من إخوتي، كانا في مجموعتين منفصلتين وتعانقا عناق الوداع قبل أن يصلهما الدور .. فجأة وصل شخص يهودي يركب دراجة نارية، حاملاً أمراً من قيادته بوقف المذبحة .. وهكذا نجا باقي أهالي القرية! وعلى ما يبدو، فإن القيادة اليهودية تخوفت من احتمال أن تتخذ إجراءات مماثلة مع الأسرى اليهود الذين سقطوا في أيدي القوات الأردنية .. ويعتقد أن حصيلة ضحايا المجزرة بلغت 78 شخصاً ..”.

–          شهادة أخرى على ما صنعه الجنود الإسرائيليون رواها “عبد الرحمن دنش” البالغ من العمر 75 عاماً لأبناء عائلته .. وحسب قوله: حين كان منشغلاً في حفر الحفرة التي كانت ستتحول لاحقاً إلى قبر له، شاهد الجنود وهم يضحكون ويتغامزون مع بعضهم بعضاً.. يقول دنش: “بعد كل مرة كانوا ينتهون فيها من إطلاق النار على مجموعة من أبناء القرية، كان الجنود يتبادلون الحديث في ما بينهم، لكنني لم أستطع فهم ما يقولون .. غير أن أحد أصدقائي العارفين باللغة العبرية قال لي: إن الجنود يقولون لبعضهم “انظروا إلى هؤلاء الحمقى الذين يحفرون قبورهم بأيديهم.. “.

ويضيف دنش قائلاً : ترجم لي أقوال الجنود وطلب مني التمهّل في حفر الحفرة التي سندفن سوياً فيها .. بعد وقت قصير من ذلك لاحظ “دنش” شخصاً كان على معرفة به فناشده أن يتدخل لإنقاذه .. وهذا الشخص اليهودي تحادث مع الضابط الإسرائيلي المسؤول عن الموقع، فأرسل الأخير الجنود ليخرجوا “دنش” وصديقه من المكان فنجيا من الموت .

2-9-3- قتل جماعي

شغل شلومو أمبر، الذي كان حينها في الخامسة والعشرين من عمره، منصب ضابط مسؤول في الكتيبة رقم 33؛ في الإفادة التي أدلى بها أمام الباحث “كاتس” قال أمبر: “المهمة التي كلفت بها في المعركة حول “طنطورة” كانت نسف سلسلة – جسر – حديد تصل بين طرفي واد ترابي .. ولكنني مع ذلك وجدت صدفةً طيلة اليوم في القرية ورأيت أشياء أفضل ألا أتحدث عنها.. “

بعد صمت طويل، كتب كاتس في بحثه نقلاً عن الضابط المذكور قوله: “التحقت بالجيش البريطاني لأنني اعتقدت أن الشيء الأهم الذي يتعين على اليهودي عمله يتمثل في محاربة الألمان .. ولكننا حاربنا في قرية طنطورة وفقاً لقوانين الحرب التي أقرها المجتمع الدولي، ومن واجبي الإقرار بأنه حتى الألمان لم يقتلوا الأسرى العزل، وبعد كل ذلك عاد الأسرى إلى بيوتهم سالمين وهنا في طنطورة قتلوا العرب”.

ويضيف: “لم يكن في الإمكان الحصول هنا على الانطباع بأن التوجه كان يهدف إلى إعادة الاحترام القومي، ولا أعتقد أن عدد الضحايا الذين سقطوا في “طنطورة” كان كبيراً للغاية، كي يدفع الناس إلى هذه الموجة من الاستنكار، وخاصة بالقول إننا خرجنا لاحتلال قرية كانت نائية ولا تقع على خط مواصلات رئيسي، وكانت هذه ظاهرة شاذة تماماً وذات مغزى واحد.

دخلنا في ما بعد في معارك شرسة وجهاً لوجه، ولكن لم يحدث أن ارتكبت أعمال قتل من هذا القبيل على نحو عشوائي، والصورة التي انطبعت في ذهني هي صورة الرجال في المقبرة، رأيت هناك الكثير من القتلى، وقد غادرت المكان عندما رأيت الجنود يقتلون ويقتلون ويقتلون .. ولذلك لا أدري كم كان عدد القتلى هناك”.

أمبر الذي عمل في يوم من الأيام رئيسا للدفاع المدني، وأنهى الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي بعدما وصل إلى رتبة ميجر جنرال، عاد وادعى هذا الأسبوع أن الأشياء التي كتبها كاتس ليست دقيقة: “لم أقل شيئا عن الجنود النازيين  ولم أتحدث عن قتل أسرى، لأنني وجدت أنه من غير الصواب الحديث عن ذلك، وقد غضبتُ من الأشياء التي كتبها المؤرخون الجدد عن مقتل الأسرى، ربما أخذوا هذه الأشياء وخلطوا بينها”.

وأضاف أمبر في حديثة لصحيفة معاريف: “أنا لست مستعدا لتأييد قصص ربما تكون غير حقيقية، وربما كتبت لأغراض غير موضوعية. كان هناك قتلى في طنطورة، هذا صحيح .. قتل جماعي؟ السؤال هو ما معنى جماعي؟ لقد قتل أشخاص خلال المعارك وربما بعدها ولكنني لم أعطِ رأيي حول ذلك؛ والآن بعدما بلغت الشيخوخة، لا أريد التعليق على تصرفاتي عندما كنت في سن الخامسة والعشرين”.

لا شك أن هذا البحث الذي يحمل عنوان “خروج العرب من قرى منحدرات الكرمل الجنوبي في العام 48” يشكل مادة متفجرة.  لقد أقر “كاتس” بنفسه أنه  احتار كثيراً قبل أن يكتب البحث، وعلى خلفية الموضوع، كان يعتقد أن هناك أشياء من الأفضل السكوت عنها حتى الآن. وقد كتب في بحثه أن “هناك اعتبارات، هي بمثابة إخراج الدببة من الغابة، بمعنى إعادة طرح قضايا حساسة قد تؤدي إلى وضع الجنود الذين خاضوا حرب 48 على مختلف رتبهم، وكذلك القيادة المدنية، أمام اختبار لأخلاق وقيم لا تتفق مع العصر الحاضر، بعد مضي خمسين عاما من حدوث الأشياء، في وقت كانت فيه الظروف مغايرة ولا زال قائما الشعور بالخطر الذي كان يتهدد قيامنا في العام 48 . هذا الموضوع، معقول، وإذا فسرناه بصورة تختلف عما يمكن أن نفسره، فإنه يحمل إجحافاً بإلقاء ظلال سيئة على جيل كامل من القادة العسكريين الإسرائيليين.

كان علينا أن نسير فوق أكوام من الجثث

على أحد جدران منزل عائلة “زراع” في الفريديس، علقت صورة كبيرة الحجم، تبدو فيها مئات النساء والأطفال من فئات السكان غير المحاربة من قرية طنطورة، مسقط رأسهم، وهم يقفون وحولهم حراسة من الشرطة العسكرية على بعد عشرات الأمتار من مبنى كان مخصصا لصناعة الزجاج، ينتظرون حتى يتم ترحيلهم عن القرية .. وفي أسفل الصورة كتب صاحب البيت بخط يده “كارثة طنطورة، 22 أيار 1948  – الذكرى والتاريخ”.

لقد كان لأحمد صالح زراع (أبو سهيل)، الذي توفي قبل ثمانية أشهر من كتابة البحث، ولزوجته “ميسر” العديد من الذكريات الجميلة في القرية قبل الاحتلال، وقد التقى “كاتس” بأبي سهيل قبل وفاته بعدة شهور. قال أبو سهيل: “كانت القرية مكاناً أجمل بكثير من حيفا، من مختلف النواحي، الجميع حضروا للصلاة في “طنطورة” التي كانت تتبع لها الأراضي التي أقيمت عليها مستوطنة “هبونيم” وكيبوتسين هما (معيان تسفي) و (معجان ميخائيل)، وبالقرب من المدرسة كانت هناك برك صغيرة كنا نربي فيها الأسماك”.

ويروي أبو سهيل: “حتى قبل وقوع الحرب، عشنا مع اليهود وتعاونا في مجالات مختلفة. وعندما نشبت الحرب حاول سكان كيبوتس “زخرون يعقوب” إقناع أهالي طنطورة بتسليم أنفسهم وإلقاء أسلحتهم .. ومن الواضح أنه لم يكن في استطاعة القرية الصمود زمناً طويلاً، ولكن شباب القرية كانوا أقوياء وأشداء وغير مستعدين للقبول بفكرة الاستسلام”.

قال أبو سهيل: “عندما بدأت المعركة حوالى منتصف الليل، دخل الجنود وأطلقوا النار دون تمييز باتجاه كل من وقعت عليهم أعينهم، وكانت الصورة تشبه حروب هتلر، أكوام من الجثث كُوِّمَت في الشوارع.  إنه منظر مفزع … حين تمّ نقلنا من مكان إلى آخر، كنا نسير على أكوام من جثث القتلى .. وبعد السيطرة على القرية جمعوا أبناءها على شاطئ البحر، الرجال على حدة، والنساء والأطفال على حدة، وبدأوا بنقل مجموعات من الرجال إلى المقبرة كي يقتلوهم”.

 

2-9-4- مقبرة جماعية
وقد التقى “كاتس” مع رسلان حسن أيوب عمر (أبو حسن) قبل سنتين في مخيم اللاجئين بطولكرم حيث يسكن هناك، قال أبو حسن “ان الدولة التي قامت على أساس وقواعد الجريمة، هي دولة زائلة، وأما الدولة التي تقوم على العدل فهي دولة دائمة” هذا ما ردده أبو حسن العجوز البالغ من العمر 75 سنة بعدما حاول عدة مرات التهرب من الاجتماع مع “كاتس”.
– وبعدما هدأت أعصابه روى “أبو حسن” لكاتس قائلاً: “بعد احتلال القرية جمعوا الناس على شاطئ البحر واختاروا سبعة كي يقوموا بجمع جثث القتلى، وكنت واحداً من السبعة، خلال عملية الجمع وجدنا جثتين وسط شجيرات الصبار، فخشيت الاقتراب منها لأنهما كانتا مليئين بالأشواك، عندما اقترب منا الضابط اشتكى الحارس من رفضي الدخول في وسط الصبار، في تلك اللحظة أخرج الضابط مسدسه وصوبه نحوي بهدف إطلاق النار علي، فلم يكن أمامي مفر فقفزت إلى داخل شجيرات الصبار وسحبت جثث الشهداء التي كانت هناك وقد امتلأت بالأشواك بطبيعة الحال.
“قمت بترتيب الجثث في أكوام من سبعة أو ثمانية أو عشرة. في آخر المطاف جمعنا 60-70 جثة وربما أكثر من ذلك، فلست أذكر بالضبط. حدثت هناك أمور كثيرة، فجأة قدم أحد الجنود وهو مصاب بيده وأعلم الحراس أنه ينوي إعدام اثنين منا بدلاً من الجرح الذي أصابه في يده، وأشار إلي وإلى الشخص الذي يقف بجانبي وأراد أن يقتادنا معه.
وقف الشخص الذي كان بجواري بلا اكتراث، فقد كان قد حمل جثث شقيقيه القتيلين، وسار للأمام مسافة (100م) إلى أن أطلق الجندي عليه النار وقتله، أما أنا خاطرت بنفسي ولم أنهض، وحالفني الحظ أنهم لم يقتلوني فوراً.
أحد الجنود تقدم مني وصوب سلاحه نحوي وأنهضني من مكاني وهو يدفعني في ظهري بعقب البندقية، نتيجة لذلك سقطت على الأرض وأصبت بكدمات لدرجة أن الآلام في ظهري تلازمني حتى الآن بعد مرور عشرات السنين.
يقول أبو حسن: ” نقلت النساء والعجائز إلى الفريديس بعد أن جردوهم من ممتلكاتهم الثمينة ومجوهراتهم، اقتيد كل من كان بين العاشرة حتى المائة للسجن، في البداية أخذوهم إلى زخرون يعقوب، وبعدها إلى “أم خالد”، وكان من بينهم من أرسل إلى أماكن أبعد. قبعت أنا في السجن في آخر المطاف مدة 11 شهراً “.
– محسن مرعي من مواليد الفريديس، كان في ذلك الحين فتى في السابعة عشرة من عمره، يقول أنه كان بين أولئك الذين أحضروا لدفن الموتى: “وصلنا بعد المعركة بيومين من أجل دفن الجثث وقمت بإدخال 40- 45 جثة في أحد القبور وأدخلت 42 جثة في قبر آخر، وفي حفرة ثالثة أدخلت تسعة جثث، بعد ذلك كانت هناك حفرة أخرى لثلاث نساء قتلن هن أيضاً “.

2-9-5- الزمرة يعرفون حرفة القتل

في السابع والعشرين من أيار (مايو)، 1948، بعد أيام من معركة الطنطورة، سجل نفتالي (توليك) ماكوبسكي في يومياته، وهو أحد جنود الكتيبة 33 الذي شارك في هذه العملية، ما يلي:

“ما تعلّمته هنا هو أن الجنود يتقنون حرفة القتل بشكل جيد. كان هناك بعض الأشخاص اليهود الذين قتلوا على يد العرب، وقد انتقم الجنود انتقامهم الشخصي بالقنص، شعرت أنهم ينفّسون عن كل الغضب، ويخرجون كل الأسى والمرارة التي تراكمت في نفوسهم؛ شعرت أن وضعهم أصبح أفضل بعد هذا العمل.  “ماكوبسكي” الذي سجل ذلك في دفتر يومياته، ورد في دراسة كاتس أنه قُتِل في معركة “الشيخ مؤنس” في الأول من حزيران 1948.

” شئ غير طبيعي في منتصف الليل “

شهادات السكان تتحدث عن وادي القتل في المقبرة وعن إطلاق نار بلا تمييز في القطاع الشمالي من القرية.

–          أحد الشهود هو مصطفى المصري (أبو جميل) البالغ من العمر 65 عاماً، التقيت به في الفريديس وهو في طريقة إلى أداء  الصلاة مثل الكثيرين غيره.  أبو جميل لم يتحمس للحديث عن الأمر، إلا أنه قال في آخر المطاف: “في الساعة الثانية عشرة ليلاً، سمعت صوتاً غير طبيعي، وكانت الحرب قد بدأت، كنت في ذلك الحين في الثالثة عشرة من عمري، فتوجهت لوالدي وسألته عن هذا الضجيج، فقال بأن هناك شيئا بين الجيران على ما يبدو”.

لم يكن والده مرتاحا للأمر على حد قول أبو جميل في ذلك اليوم، فطلب من كل أفراد الأسرة البقاء في البيت.  عندما رأى أن القرية قد احتلت، اقترح على جيرانه من قرية جسر الزرقاء أن يبقوا في بيته، وكان يعرف الكثيرين من اليهود في الجوار، فأمل أن يصل أحد من معارفه اليهود ليساعدنا في الخلاص من هذا الموقف. وهذا ما حدث، إذ قدم لبيتنا جندي كان يعرف الأسرة جيداً، “أنت تعرفنا منذ 20 سنة” قال له والد المصري، إلا أن الجندي رد عليه: “إياك أن تقول شيئاً كهذا، فأنا لا أعرف أحداً منكم”، رد عليه الوالد وهو مكسور الخاطر: “إن كان ما تقوله هنا معروفاً لدى الآخرين، فأنا لا أريد منك أي شيء”.

غادر الجندي المكان ونقل مسؤولية عائلة المصري إلى جندي آخر. هذا الجندي أبعد مصطفى وشاباً مريضا آخر عن البيت، وبعد ثوان معدودات، عندما كانا على مسافة (15) متراً منه، سمعا صوت إطلاق النار وفهما أن الجنود قتلوا كل أبناء الأسرة – 12 فرداً.

تحدث أبو جميل أيضاً عن قاتل يهودي تجول في شوارع البلدة وأطلق النار على المارة بشكل عشوائي كما يحلو له ودون سبب، بعد أن انتهت المعركة بساعات ” ناشده دافيد شيلي أن يكف عن إطلاق النار على العزل، كما لو أنهم طيور البط! ولم يكف عن فعلته إلا بعد جدل طويل”.

2-9-6- ذبحوا داخل بيوتهم

الموقع الثالث الذي ذبح فيه مشردو الطنطورة حسب شهاداتهم – إضافة إلى المقبرة والشوارع – كان في داخل البيوت خلال البحث عن السلاح. روى الشهود أن كل فتى ألقي القبض عليه خضع للتحقيق حول “سلاح موجود” بحوزته؛ أخرج الجنودُ المعتقلين لجمع الأسلحة من البيوت، “خرج الجنود مع السلاح، إلا أن الشبان لم يخرجوا من البيوت قط”.

وقال الشهود: تواصلت المذبحة لساعات طويلة؛ “التحضيرات للإعدام استكملت تقريباً”، قال الزوجان زراع لكاتس “جاء سكان زخرون يعقوب فجأة ليحاولوا إنقاذنا في اللحظة الأخيرة، نشب جدل حاد بين سكان زخرون يعقوب وبين الجنود؛ لم يرغب العسكر في التنازل، إلا أن سكان زخرون وقفوا حائلاً بيننا وبين الجنود وأصروا على أن لا يمس الجنود أي واحد من السكان المحليين، إذ كانوا يعرفون جميع من في القرية، ولو تأخر سكان زخرون ربع ساعة لكان كل شيء قد انتهى .

” عندما أخرجونا من البيت”، أضافت ميسر، “مررنا من أمام جثث كثيرة، وأجهشت الناس، خاصة النسوة، بالبكاء وهن يشاهدن جثث الموتى الكثيرة”.  أوقف الجنود الرجال في طابور مثل أبقار معدة للذبح، وبينما كنا في القرية، جمعوا القتلى في كومة واحدة على ارتفاع عدة أمتار وأحضروا جراراً كبيراً وحفروا حفرة عميقة ضخمة وألقوا فيها الجثث.  أنا متأكدة من أنهم كانوا ينوون إبادة كل أهل القرية، ولولا تدخل سكان زخرون يعقوب لما بقي أحد حياً من سكان الطنطورة”.

2-9-7- “أنا لست قاتلاً وليس لدي ما أخفيه”

أحد قادة اليهود الذي أُجريَتْ معه مقابلة في إطار بحث كاتس ويدعى مردخاي سوكولر من زخرون يعقوب، وعمره اليوم ثمانون عاماً، قاد في العام 1948 جنود لواء الكسندروني للطنطورة. حدثنا سوكولر قائلاً: “تقدمنا إلى داخل القرية، وفجأة سمعنا صوت الرصاص، فبدأنا نطلق في كل الاتجاهات لأننا لم نعلم من أين تأتي النيران”.

يقول سوكولر إنه شاهد في اليوم التالي عشرات الجثث ملقاة في أنحاء القرية، ويضيف:

“حفرنا حفرة كبيرة قبالة خطوط السكة الحديدية في خابية الزجاج (بناء موجود في المكان حتى اليوم)، وهناك وضعنا الجثث كما وجدناها بملابسها، بمساعدة سبعة من سكان قرية الفريديس، وكانت وجوه القتلى العرب معصوبة بالكفّيات.  وُضِعوا صفوفاً في قبر جماعي ضخم؛ لم يكن هناك أي تسجيل للقتلى، ولكني أذكر أننا أحصينا العدد ووصلنا إلى 230 تقريباً”.

هذه الأمور، كما يكتب كاتس في بحثه، تتناقض مع أقوال شاهد آخر واسمه أبو فهمي، الذي ذكر له أنه سجل بنفسه في دفترين أسماء القتلى ووصل إلى أعداد أقل بكثير.  إلى جانب ذلك، دارت شهادة أبي فهمي حول يوم احتلال القرية فقط، بينما قال عدة أشخاص في شهاداتهم في إطار البحث، إن دفن شهداء الطنطورة تواصل لعدة أيام.

يتذكر سوكولر كيف تكوّن في المكان “جبل موت” ضخم بعد يومين من عملية الدفن بسبب انتفاخ الجثث في القبر الجماعي، ولم يعد هذا “الجبل” إلى حالته المسطّحة إلا بعد أسبوعين”.

ضمير سوكولر “مرتاح تماماً بالنسبة لما حدث في الطنطورة”.  “أنا مقاتل” يقول بعد 52 سنة، “وهذا الأمر حدث في إطار المعركة، إذ أطلقوا النار علينا… لم نعرف من أين تأتي النيران، ولذلك أطلقنا النار في كل الاتجاهات.  أنا لست قاتلاً وليس لدي ما أخفيه”.  يضيف سوكولر أنه لم تجر مذبحة في داخل البيوت وفي المقبرة كما يقول اللاجئون.

لكن كاتس يكتب في بحثه بأن سوكولر مثل غيره من الشهود لم يكن موجوداً في موقع القتل الذي حدث في مكان آخر من القرية.

2-9-8- ” بحث عن مبررات محتملة “

حاول كاتس في بحثه فهم واكتشاف السبب الذي دفع جنود الكسندروني إلى التصرف على النحو الذي تصرفوا فيه.  أحد الأسباب المحتملة التي يطرحها في بحثه تزعم أن الجنود اليهود أصيبوا بصدمة قبل معركة الطنطورة بأسبوع، إذ قتل اثنان من زملائهم داخل سيارة.

في محاولة من كاتس لاكتشاف أسباب محتملة أخرى كانت وراء ما حدث، توجه إلى الحنان عناني الذي كان في العشرين من عمره حينها وتمّ إلحاقه بالسرية (أ) في هذه العملية.  عناني كان قد قدم إلى البلاد قبل ذلك بخمسة عشر عاماً، بعد أن فرّ مع أبناء عائلته من النازيين.

يقول كاتس، ربما كان هذا هو سبب بحثه عن تفسيرات لما حدث في الطنطورة .

خلافاً للجنود الآخرين من الوحدة الذين لم يذكروا ظاهرة القتل الجماعي، قال عناني لكاتس :

” صدقني لقد شغلني، خلال كل السنوات الطويلة التي مرت، السؤال عما حدث في ذلك اليوم في الطنطورة! من المحتمل أن يكون ما حدث مرتبطاً بفقداننا قبل ذلك بأسبوع لعدد كبير من خيرة زملائنا في معركة كفر سابا العربية، الأمر الذي جعل الجنود يخوضون معركة الطنطورة وهم مشبعون بمشاعر الانتقام”.

عناني قال أيضاً إنه في عدد كبير من الوحدات، بما فيها وحدته، كان الجنود متعطشين للدم بشكل غير عادي، وفي بعض الأحيان، كان من الصعب جداً السيطرة عليهم، “إلى جانب ذلك، لم تكن هناك سياسة واضحة بشأن إطلاق النار على الناس بعد استسلامهم”.

–          أكد اللواء احتياط بنتس فريدان، قائد العملية في الطنطورة، وبعدها قائد لواء الكسندروني، أن عدداً كبيراً من السكان المحليين العرب قد قتل في معركة الطنطورة..”هذه كانت حرباً، وفي الحرب، خصوصاً التي تجري في منطقة سكنية، يقتل الناس.  عندما ترى عدواً أمامك ولا يوجد على جسده ورقة كتب عليها أنه لا ينوي قتلك، أنت تبادر لإطلاق النار عليه، على هذا النحو انتقلنا من شارع إلى شارع، وبذلك قتل عدد كبير من الناس”.

يرفض فريدان بشدة الشهادات حول حدوث مذبحة جماعية في المقبرة وحول قتل الناس داخل بيوتهم.

ابراهام أمبر الذي كان ضابط قسم في اللواء العسكري، ويبلغ اليوم 73 عاماً، يعبّر عن تحفظه على بحث كاتس.   “في كل مرة يظهر صديق ما ويشعر بالحاجة إلى القول إن اليهود قتلوا العرب، لماذا لا يحققون في كل أعمال القتل التي اقترفها العرب ضد اليهود؟” حسب قوله.

2-9-9- شهادات أخرى عن المجزرة

وبينما تواصلت في المحكمة المركزية في تل أبيب محاكمة الباحث الإسرائيلي تيدي كاتس الذي كشف عن مجزرة الطنطورة التي نفذت في العام 1948، مَثُل أمام المحكمة العديد من شهود العيان الفلسطينيين، أبناء قرية الطنطورة الذين يدعمون وجهة نظر الباحث كاتس حول وقوع المذبحة، ومن بينهم فوزي طنجي (73 عاماً) من مخيم طولكرم للاجئين الذي قال في شهادته أمام المحكمة

” لقد جمعونا على الشاطئ وفصلوا النساء عن الرجال ثم أخذوا كل سبعة إلى عشرة رجال وأوقفوهم في الشارع أمام المسجد وأطلقوا عليهم النار؛ وأضاف، لقد قتلوا تسعين شخصاً” .

–          في المقابل، قال قائد لواء وحدة السكندروني التي نفذت المجزرة أمام المحكمة، إن شيئاً لم يحدث في طنطورة.

–          ووجه محاربو وحدة السكندروني المذكورة للباحث كاتس تهمة القذف والتشهير وتزييف الشهادات وطالبوه بتعويض بمقدار 101 مليون شيكل.

–          وكانت العديد من المؤسسات الفلسطينية العاملة في فلسطين 48، وفي مقدمتها لجنة المهجرين، قد أعربت عن دعمها للباحث كاتس في قضيته العادلة، بينما أعربت عدة مؤسسات إسرائيلية ليبرالية عن اعتقادها بأن تقديمه للمحاكمة، محاولة لِكَمّ الأفواه.

ودافع عن الباحث كاتس المحامي المعروف افيغدور فيلدمان الذي قال إن هناك شهادات إضافية غير التي وردت في البحث، تدعم وجهة نظر الباحث وتؤكد وقوع المجزرة.  يذكر أن الباحث كاتس كان قد أجرى بحثه المذكور في إطار دراسته الأكاديمية في “جامعة حيفا”.

2-9-10- كبار السن دفنوا أبناءهم في مقبرة جماعية :

–          لا يزال اللاجئ السبعيني قاسم محمد أحمد عبيد من مخيم جنين، يحمل في عظم ساعده الأيمن، العيار الناري الذي أصابه في العام 1948، وتحديداً في معركة الدفاع عن الطنطورة داخل “الخط الأخضر”، حيث اشتبك الفلسطينيون مع العصابات الصهيونية في معركة ضارية للدفاع عن القرية التي شهدت واحدة من أبشع المجازر التي استهدفت الشعب الفلسطيني في عام النكبة (1948).

وقد تحدث عبيد خلال حلقة من حلقات برنامج “ذاكرة المكان” الذي تنظمه مديرية الثقافة الفلسطينية في محافظة جنين، بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة والخمسين للنكبة، فركّز خلالها على قريته المدمرة “كفر لام” القريبة من مدينة حيفا والتي دمرتها العصابات الصهيونية، بعد أن قتلت العديد من أهلها وشردت من تبقى منهم.

وبدأ اللاجئ عبيد، الذي يقطن مع أبنائه وأحفاده في مخيم جنين، الحديث عن رحلة اللجوء والتشرد، بالإشارة إلى قريته التي تبعد عن حيفا 21 كيلو متراً إلى الجنوب، وترقد على ساحل البحر الأبيض المتوسط الذي تغسل أمواجه سهولها الغربية، وتتداخل بيوتها الشمالية التي تحولت إلى أطلال مع قرية صرفند المجاورة، فيما تتعانق سهولها الجنوبية مع سهول الطنطورة.

وكان أهالي “كفر لام” البالغ عددهم نحو 400 نسمة ينتمون إلى عشر عائلات، يعتمدون في مصدر رزقهم على فلاحة أراضيهم التي كانت مساحتها تتجاوز خمسة آلاف دونم، ويزودون حيفا ويافا وعكا بمحصول الخيار الذي كانت قريتهم تشتهر بزراعته نظراً لوفرة عيون المياه العذبة فيها.

وبدأ التعليم في القرية مبكراً، فكان مركزه المسجد قبل أن تبنى مدرسة لأبناء القرية، في صرفند، يدرس الطلبة فيها من الصف الأول ولغاية الرابع الابتدائي، ومن ثم يكملون في مدرسة الطنطورة.

وعلى صعيد المواصلات، قال عبيد إنها كانت ميسّرة إلى حيفا عبر خط للباص ينطلق من الطنطورة إلى القرية مروراً من عين غزال وصولاً إلى حيفا، ما سهّل حصول المرضى على العلاج في مستشفى “رمبام” في حيفا.

بعد ذلك، بدأ عبيد يستعرض الدور الوطني الذي لعبته قريته، فقال “تعرّضت “كفر لام”، مرات كثيرة، للحصار العسكري المشدد من قوات الانتداب البريطاني بحثاً عن ثوار ثورة 36، وتعرّضت للكثير من المضايقات والعقوبات الجماعية التي لم تثن أهلها عن القيام بدورهم وواجبهم الوطني في مؤازرة الثوار ودعمهم.

وفي ما يتعلق بالعلاقة مع اليهود، قال عبيد إنها بقيت هادئة حتى تفجرت أواخر العام 47، حين هددت العصابات الصهيونية الأهالي بالقتل بهدف الضغط عليهم للخروج من قريتهم، حتى هاجمتها، ما اضطر الأهالي العزل إلى الهروب باتجاه عين غزال واجزم وجبع والفريديس، التي تحولت في ما بعد إلى نقاط للمواجهات الضارية مع العصابات الصهيونية المسلحة والمدعومة من قوات الانتداب البريطاني، إذ تعرضت عين غزال واجزم وجبع للهجوم الجوي من أربع طائرات، فقتل بالقنابل العشرات من السكان وهدمت الكثير من المنازل .

وعندما بدأ عبيد الحديث عن مجزرة الطنطورة، رفع ساعده الأيمن ليشير إلى موقع إصابته بعيار ناري لا يزال مستقراً في ساعده، أصيب به خلال معركة ضارية مع العصابات الصهيونية للدفاع عن القرية.

وأضاف: “حاصرت العصابات الصهيونية الطنطورة من جهة الشمال ووقعت معركة حامية الوطيس قصفت خلالها تلك العصابات القرية من البر والبحر والجو قبل أن تقتحمها وتدنس حرمة مسجدها، ومن ثم طلبت عبر مكبرات الصوت من السكان الخروج من منازلهم والتوجه نحو الساحل، وهناك بدأت العصابات الصهيونية تنفيذ مجزرتها “.

وعن تفاصيل مجزرة الطنطورة قال عبيد: “كانت العصابات الصهيونية تنتقي الشبان على شكل مجموعات، كل واحدة منها مؤلفة من عشرة شبان على الأقل. كانت تلك العصابات تقتادهم بعيداً عن أعين الناس وتأمرهم برفع أيديهم وإدارة وجوههم نحو الحائط قبل أن تطلق الرصاص عليهم لترديهم جميعاً شهداء، ومن ثم تأمر كبار السن بحمل الشهداء وإلقائهم في مقبرة جماعية حفرتها جرافات العصابات الصهيونية.  وهكذا حتى تكرر المنظر أكثر من عشر مرات “.

وكان عبيد أحد أفراد المجموعة التالية من الشبان الذين من المفترض أن تقتلهم العصابات الصهيونية في إطار حرب الإبادة الجماعية، ولكن تدخل “مختار” مستوطنة “زمارين” الذي كان على علاقة ومعرفة بعموم الأهالي، فحال دون الاستمرار في عملية الذبح الجماعي، فنقل من نجا من المجزرة إلى موقع اعتقال في مدينة أم خالد “نتانيا”، حيث تمكن عبيد من الهرب بعد عام من السجن، فاراً باتجاه قلقيلية، ومن ثم إلى نابلس، وصولاً إلى جنين.

–          وما أنعش الذاكرة الزاخرة بالمعلومات للاجئ عبيد، مشاركته في الشهادة الحية مع ابن جيله اللاجئ يوسف الحاج داود

 الذي قال: “بعد أن نفدت الذخيرة الحية التي بحوزة قرى عين غزال واجزم وجبع، وتحديداً بتاريخ 25/7/1948 ، بدأت رحلة التهجير والتشريد، فتوجهنا إلى جنين، وبسيارات عراقية توجهنا بعدها إلى بغداد حيث نزلنا في مدارس حي القرارة مدة شهرين “.

وتابع داود وهو يدلي بشهادة النكبة: “أقمنا مدة عام كامل في ثكنات الجيش البريطاني في البصرة، حتى تقدمنا بعريضة لرئيس الفرقة العراقي المسؤول عن اللاجئين للعودة إلى فلسطين، فتمت الموافقة على طلبنا بالعودة وكان عددنا 170 لاجئاً، نقلتنا السيارات إلى الحدود الأردنية، حيث مكثنا ثلاثة أيام في حالة من الجوع والعطش، حتى تم ترحيلنا إلى الضفة الغربية باستثناء 30 لاجئاً توجهوا إلى سورية “.

2-9-11- بني موريس يشهد

من جهته، زعم المتحدث الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي، في تعقيب له على وقائع المذبحة التي ترويها دراسة الباحث الإسرائيلي من جامعة “حيفا”، قائلاً:

” حسب المعلومات المتوفرة في حوزة الجيش الإسرائيلي، لا توجد أي دلائل على مذبحة ارتكبت ضد سكان قرية طنطورة وقت احتلال القرية في أيار من العام 1948 “.

ويقول المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي:

“قرية “الطنطورة”، في بداية أيار 1948، هي من أواخر القرى العربية الباقية في شريط السهل الساحلي الممتد من منطقة زخرون يعقوب “جنوب حيفا” حتى تل أبيب، والتي لم تكن قد خضعت للاحتلال بعد.

وفي أيار، عقد اجتماع بين ضباط الاستخبارات المحليين في عصابة الهاغانا الإسرائيلية وبين خبراء إسرائيليين في الشؤون العربية لتقرير مصير الطنطورة وبضع قرى أخرى”، واتخذ القرار، بحسب ما ذكر المؤرخ الإسرائيلي بني موريس، بـ “طرد السكان أو إخضاعهم”.

ويؤكد كتاب “تاريخ حرب الاستقلال”، على “أن القرار نُفذ في الطنطورة بعد أسبوعين، ليل 22-23 أيار،

إذ هاجمت الكتيبة الثالثة والثلاثون في الهاغانا “، الكتيبة الثالثة في لواء الكسندروني” القرية التي سقطت بعد معركة قصيرة “.

وكتب موريس :

“كان من الواضح أن قادة لواء الكسندروني أرادوا القرية خالية من سكانها وأن بعض هؤلاء السكان على الأقل طرد”، وجاء في بلاغ عسكري إسرائيلي صدر في 23 أيار 1948 وأوردته صحيفة “نيويورك تايمز” “، أن مئات من العرب وقعوا في أيدينا فضلاً عن كميات كبيرة من الغنائم “.

وقد أورد مراسل الصحيفة ادعاء الهاغانا المستبعد، وهوأن القرية كانت نقطة تهريب للمتطوعين المصريين القادمين إلى فلسطين بحراً، غير أن معاناة السكان لم تنته بطردهم، فقد ذهب بعضهم إلى المثلث، بينما طرد نحو 1200 شخص إلى قرية الفريديس المجاورة والتي كانت قد سقطت من قبل.

وفي آخر أيار 1948 ، سأل وزير الدولة الإسرائيلي بيخور شيطريت رئيس حكومته دافيد بن غوريون: “أيجب طرد سكان الطنطورة من الفريديس أيضاً؟”.  ويشير موريس إلى “أن معظم السكان كانوا قد طردوا في الصيف من الأراضي التي يسيطر عليها الإسرائيليون، وأن 200 شخص تقريباً مكثوا في الفريديس ومعظمهم من النساء والأطفال”.