Sabra

مجزرة صبرا وشاتيلا:

حين نتوقف اليوم أمام ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، فإن فيضاً هائلاً من مشاعر الألم والحزن والقهر والغضب يتحرك في نفوسنا بقوة .. بينما تحضرنا في الوقت ذاته جملة كبيرة من الأسئلة والتساؤلات المتعلقة بتطورات وأحداث تلك المجزرة أولاً، والمتعلقة بأطرافها ومقترفيها ثانياً، والمتعلقة بذاكرة الصراع التاريخي ومسلسل المجازر الصهيونية ضد الفلسطينيين والعرب ثالثاً، والمتعلقة، رابعاً وهذا هو الأهم هنا، بالحسابات التاريخية عن مسلسل المجازر الصهيونية .. فمتى وكيف سيدفع قادة الإرهاب الصهيوني فاتورة الحسابات المتراكمة، والتي لم تكن المجزرة المروعة في صبرا وشاتيلا سوى واحدة منها؟!…

وحين نتوقف اليوم أمام هذه المجزرة ونحن نتابع قسرا المفاوضات العقيمة حول التسوية السياسية نتساءل: هل يا ترى ستعيد المفاوضات الأرض والحقوق المغتصبة، وستسدد فواتير الحسابات المؤجلة عن مسلسل التطبيقات الإجرامية الصهيونية التي ما تزال مستمرة على الأرض الفلسطينية؟!.

4-2-1-  تفاصيل المجزرة

نتوقف هنا مرة أخرى أمام تفاصيل المجزرة كي نستذكر ونتذكر بقوة أننا في مواجهة دولة عنصرية إرهابية لن تنسلخ عن جلدها وطبيعتها أبداً.

–          اجتياح بيروت الغربية

في الساعة الخامسة من صباح يوم الأربعاء 15/9/1982، ابتدأت العمليات الإسرائيلية باجتياح بيروت الغربية بعدما كانت الألغام والمتاريس قد رفعت من معابرها وشوارعها، وفيما كانت قوات الحركة الوطنية اللبنانية منزوعة السلاح أو مشتتة.

وبدأ الاجتياح بألفي جندي نقلتهم الطائرات على عجل إلى مطار بيروت، وقبل مضي أربع وعشرين ساعة، أي في صباح الخميس، كان طوق المهاجمين قد أحكم تماماً حول المنطقة.

–          الدخول باتجاه المخيمات

مساء الثلاثاء 14/9/1982، باشرت القوات الإسرائيلية بدخول العاصمة اللبنانية باتجاه ثلاثة مخيمات للاجئين الفلسطينيين في غرب بيروت.

لم تقابل هذه القوات أي اعتراض قتالي وهي في طريقها للمخيمات، وجاء هذا بعد أن أذيع نبأ نسف المبنى الذي تشغله قيادة حزب الكتائب في الأشرفية، حيث كان بشير الجميل يرأس اجتماعاً لقادة القوات اللبنانية؛ وقبل أن يتأكد وجوده بين ضحايا النسف، اتخذ شارون بالتشاور مع رئيس وزرائه مناحيم بيغن قراراً بدخول الفاكهاني وصبرا وشاتيلا، والطرقات المؤدية إليها مقطوعة.

–          بدأت أعمال القتل مساء يوم الخميس 16/9/1982 وفي الخامسة منه، بعد أن صدر القرار الحكومي عن اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي.

وقد استخدمت في عمليات الإبادة أدوات كثيرة، من القنابل اليدوية والعنقودية، إلى السكاكين والخناجر والبلطات والحبال، وهناك دلائل تشير إلى أن عدداً من القتلة (إن لم يكن كلهم) لم يكونوا في حالة طبيعية مساء يوم الخميس بل كانوا مخمورين أو مخدرين، وقد أشير أيضاً إلى استخدام عقاقير مهيجة، ووجدت في ساحة الجريمة مخلفات تدل على ذلك، ولا شك في أن بشاعة التمثيل بالأحياء من الأطفال والنساء والرجال قبل الإجهاز عليهم، وكذلك بالجثث, يجعلنا نفترض وجود قتلة من نوع خاص جداً.

وقد جرت أعمال التقتيل وسط طوق عسكري وإسرائيلي محكم على المنطقة، ووسط تكتم إعلامي أشد إحكاماً.

كان القتل على أشده والثناء على القتلة في ذروته والتركتورات والجرافات الإسرائيلية تكوّم الضحايا في حفر تحولت إلى مقابر جماعية.

فكانت حصيلة المجزرة نحو خمسة آلاف شهيد هم ضحايا صبرا وشاتيلا، دفعوا حياتهم مقابل أيام معدودة أزالوا من خلالها القناع الحديدي عن وجه الصهيونية، ليرى العالم وجهها الحقيقي سافراً؛ إلا أنه قناع سحري سرعان ما يعود ويغطي الوجه الحقيقي للصهيونية وينفيه بسهولة من ذاكرة الرأي العالم العالمي ليظهر الوجه الذي يخدم مصلحة صاحبه وغاياته في الوقت والمكان الذي يراه مناسباً.

4-2-2-  قضية ومأساة

قضيتهم ومأساتهم أكبر من كل نكبات العالم.. جُمِعوا في غفلة عن أعين الضمير العربي والدولي أشلاء وأجساداً مقطعة إرباً إرباً، ودفنوا في قبر جماعي بصمت لا أحد يعلم حتى أسماءهم.. إنهم ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا، التي ارتكبها الإسرائيليون بدم بارد في العاصمة اللبنانية بيروت.

وتكبر المأساة ويعتريك شعور غريب لم تألفه من قبل، ملؤه الحزن والأسى، إذا ما وقفت في حضرة الشهداء الذين سقطوا ظلماً وعدواناً ودون أي ذنب اقترفوه إلا لكونهم أصحاب قضية .. هم فلسطينيون، ولبنانيون، ورعايا عرب جمعتهم المحنة في يوم النكبة.

كل شيء في مقبرة شهداء صبرا وشاتيلا في ضاحية بيروت الجنوبية يوحي للمشاهد بأن هناك مؤامرة متعمدة، لمحو صورة مجزرة العصر الرهيبة التي ارتكبها جنود الاحتلال الإسرائيلي وعملاؤهم عصر يوم 16/أيلول / 1982، من ذاكرة الأمة العربية، فالمكان هو ساحة لا تتجاوز مساحتها المائة والخمسين متراً مربعاً، وفي بطنها يرقد أكثر من خمسة آلاف شهيد من شيوخ ونساء وأطفال وشبان يكاد يغمرهم النسيان، لأن هويتهم عربية، وقضيتهم عربية، وباتوا وصمة عار على جبين الإنسانية التي تجاهلت هؤلاء الشهداء، الذين غسلوا الأرض من رجس العدو، وفجّروا ثورة ومقاومة صنعت نصراً لكل العرب في جنوب لبنان المحرَّر، وفجّرت ثورة الحجارة في فلسطين المحتلة.

وإذا كانت الذاكرة العربية في غياهب دهاليز عصر الهزيمة والانكسار أمام إسرائيل وحلفائها، فإن ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا تأتي دائماً لتحيي المأساة التي ترسم ضمير العالم الساكت في الأصل عن جرائم إسرائيل المستمرة منذ أكثر من نصف قرن من الزمن.

4-2-3-  لم يرحموا أحداً

حول تفاصيل المجزرة البشعة، تحدث عدد من أبناء المخيمين ليقدموا لنا أنصع شهادات حية عن المجزرة.

–          فروى الحاج أبو إبراهيم زعيتر وزوجته أم إبراهيم مشاهد حية عن المجزرة، وقد فقدا (42) شخصاً من عائلتهما في مذبحة العصر، وقال الحاج زعيتر: “لم يرحموا أحداً، حتى القطط والكلاب الشاردة لم تسلم من حقدهم وحرابهم السامة، لقد جمعنا ضحايانا في أكياس من الخيش والنايلون بعد يومين من الجريمة، وهم في ضمير كل المسؤولين والعالم، وقضيتهم برسم كل المنظمات الإنسانية”.

–          وقالت أم إبراهيم: “كانوا كالنعاج المذبوحة في الشارع والدماء تغطي كل مكان، الكبار، والصغار، والشيوخ والشباب، مكدسين في أكوام من اللحوم البشرية، بعضهم مذبوح من الوريد إلى الوريد، وبعضهم الآخر مقطع الأوصال والرأس، والأجساد كلها مشوهة إلى درجة تعذّر علينا فيها معرفة أولادنا .. (كأنك في مسلخ).”

–          ويضيف الحاج زعيتر: “الصدفة وحدها أنقذتنا، إذ حالفنا الحظ وتمكنا في غفلة من المجرمين من مغادرة المكان، وعندما عدنا بعد يومين، راعنا ما شاهدناه من فظائع لا يتصورها أي إنسان عاقل ولا يقبلها أي ضمير – المأساة كانت كبيرة جداً بحجم الدنيا، وكان سلاحنا الصبر والإيمان بعدالة قضيتنا وحقنا المقدس في الحياة؛ لقد ظنوا أنهم يقتلون وطناً، وفاتهم أن موت هؤلاء الشهداء الأبرياء من شأنه أن يفجر ثورة ويصنع مقاومة، فيولد من رحم المأساة أبطال يعرفون كيف يهزمون الأعداء ويحققون النصر”.

–          ذكر أن الشاهد الحي الوحيد على وقائع المجزرة هو محمد شمص (38عاماً) الذي نجا بأعجوبة وقام من بين الأموات بعد 36 ساعة على وقوعها.. وكان من الذين كتبت لهم الحياة بقدرة قادر. “رجل هادئ رزين له سبعة أطفال كانوا يتحلقون حوله”، تحدث قائلاً: “عصر ذلك اليوم المشؤوم طوق العدو الحي من جميع الجهات، وكان حبيقة يقف على ذلك السطح ( وأشار بيده إلى مبنى مقابل لمدخل مخيمي صبرا وشاتيلا)، وجمع المسلحون كل السكان في الشارع العام، كباراً وصغاراً، نساء ورجالاً، وأمروهم بالركوع ففعلوا، ومن لم يحالفه الحظ ويجد مكاناً، وقف ووجهه إلى الجدار المقابل” .. ويسكت قليلاً، ويكاد ينفجر غضباً وحزناً، ثم يضيف: “آخر مشهد قبل بدء “حفلة” الاغتيال كان جارنا أبو مرهف وبحوزته حافظة نقود تحتوي على 500 ليرة لبنانية، فطلب من المسلح الذي صادرها منه اقتسام المبلغ معه لأنه لا يمتلك غيره، وقبل أن يجيب، بدأ إطلاق النار عشوائياً، وفي لحظات تهاوى آلاف الضحايا مضرجين بدمائهم، وتكررت عملية القتل عدة مرات لضمان موت الجميع، كانوا ينتقلون بين الضحايا، يذبحون بحرابهم من بقي فيه رمق من حياة، يفجرون الرؤوس بفؤوس فولاذية من دون رحمة، يقطعون الأوصال، يغتصبون النساء، حتى تحول المكان إلى “مسلخ””.

وكيف نجوت من المجزرة؟

تنهد شمص وهز رأسه قائلاً: “عندما بدأوا بإطلاق الرصاص ارتميت على الأرض فوق أبي وأخي، ولم ينالوا مني في الجولة الأولى، ولكنهم عادوا في الجولة الثانية يطلقون رصاصهم الحاقد على الجميع فرداً فرداً، وكان من نصيبي سبع رصاصات استقرت في جسدي، وشاءت الأقدار أن يقع فوقي بعض الضحايا الذين حالوا بأجسادهم دون الإجهاز عليّ”.

ألم يلاحظ أحدهم أنك لم تمت؟

“لا .. لأنني تظاهرت بالموت، وعندما وقفوا فوق رأسي قطعت أنفاسي ولم أحرك ساكناً لمدة تتجاوز عشر دقائق، فهم لم يغادروا المكان إلا بعدما تأكدوا من موت الجميع، وداسوا بنعالهم على الرؤوس وأجساد الأطفال والنساء بهمجية ووحشية .. كانوا يغتالون كل شيء حي، حتى القطط والكلاب الشاردة لم تسلم من رصاصهم الحاقد. ربما فقدت الوعي لفترة، وقد حال ثقل أجساد الموتى التي تكدست فوقي دون انسحابي بسهولة من بين الأموات، وكان حبيقة يراقب ما يجري من بعيد بواسطة منظار بحوزته وشاهدته بأم عيني”.

وفي اليوم الثالث للمذبحة أي صباح يوم 18/9/1982، تمكنت من الحراك بعدما أزحت عن صدري جثتي أبي وأخي وزحفت بين آلاف الجثث المكدسة في كل مكان طلباً للنجاة، وجراحي النازفة حالت دون وصولي إلى مكان آمن، الأجساد كلها كانت منتفخة، ولا مجال أمامي سوى العبور من فوقها، وأذكر جيداً أنه حين كانت يدي تلامس جسد أحدهم ينسلخ جلده ويعلق بها.

وبعد عراك طويل مع الحياة والموت، خلت الساحة من المسلحين وحضرت سيارات الصليب الأحمر اللبناني، والهلال الأحمر الفلسطيني، ولا أدري بعدها ما جرى، ولم أستعد الوعي إلا وأنا في المستشفى.. إنها جريمة العصر”.