Monday

مجزرة الاثنين الأسود في باحة الأقصى:

أقدمت السلطات الإسرائيلية الرسمية بأذرعها المتعددة، في يوم الاثنين الثامن من تشرين الأول / أكتوبر / 1990، على اقتراف تلك المجزرة / الجريمة البشعة المذهلة، ضد رجال ونساء وأطفال وشيوخ فلسطينيين، في باحة المسجد الأقصى المبارك.

–          حيث اقتحمت قوات الشرطة وحرس الحدود والمخابرات والمستوطنين اليهود إلى جانبهم، صباح ذلك اليوم ، ساحات الحرم القدسي الشريف من أبوابه المختلفة وفاجأت حشود الفلسطينيين هناك الذين كانوا قد تجمعوا:

 أولاً: لأداء الصلاة،

وثانياً: للتصدي لمحاولة عصابة “أمناء الهيكل” بزعامة “غرشون سلمون” وضع حجر الأساس للهيكل الثالث المزعوم في ساحة الأقصى.

“لقد ثبت بالشواهد العملية والمعطيات الملموسة والشهادات الموثوقة، أن تلك المذبحة كانت مدبرة ومخططة ومبيّتة، أعدت لتنفيذها السلطات الإسرائيلية كل العدة والاستعدادات اللازمة، كما هي عادتها في سلسلة المذابح التي نفذتها ضد الفلسطينيين في مراحل زمنية مختلفة”.

ويمكن القول إن الطبيعة الإسرائيلية الإرهابية الدموية بلغت ذروة جديدة وتجلت من جديد في هذه المذبحة في قلب أقدس المقدسات الإسلامية، كما تجلت قبل ذلك بأسبوعين فقط  (لكن بحجم دموية أقل)، في تلك الحملة التنكيلية / التدميرية / الدموية الشاملة التي شنتها ضد مخيم البريج في قطاع غزة، بحجة قتل جندي إسرائيلي احتياط، كما تجلت في حملة المذابح الجماعية والحملات التنكيلية / التدميرية / الإرهابية الواسعة التي اقترفتها تلك السلطات وقواتها ضد أبناء الشعب العربي الفلسطيني سواء في مراحل الانتفاضة المختلفة أو في مراحل ما قبل اندلاع الانتفاضة.

–          لقد أقدمت قوات الاحتلال على تنفيذ المذبحة باستخدام كل الأسلحة المتوفرة بحوزتها من قنابل غازات سامة، وأسلحة أوتوماتيكية، وطائرات عسكرية مروحية، ولجأ الجنود ورجال المخابرات والمستوطنون إلى إطلاق الذخيرة الحية القاتلة على شكل صليات رشاشة متواصلة، أطلقت من كافة الاتجاهات وبصورة منسقة مخططة جيداً، ما أدى إلى حشر آلاف المصلين الفلسطينيين من مختلف الأجناس والأعمار في مصيدة موت وذبح جماعي،

–          “ما أسفر بالتالي عن سقوط 23 شهيداً فلسطينياً، وإصابة 850 آخرين بجروح مختلفة، وفقاً للمصادر الفلسطينية المستندة إلى إحصائيات المستشفيات العربية في القدس المحتلة”.

4-3-1-   ردود الفعل الإسرائيلية

علاوة على سلسلة التعليمات وردود الفعل الإسرائيلية المختلفة الصادرة عن مختلف المستويات الحكومية والبرلمانية والحزبية والعسكرية والتي أجمعت كلها بشكل عام على “الإعراب عن أسفها لقتل وجرح هذا العدد الكبير من العرب، وإدانة وشجب الاستفزاز العربي والاعتداء الذي قام به المصلون العرب على المصلين اليهود في ساحة حائط المبكى، ما أدى إلى أن تقوم قوات الأمن الإسرائيلية بواجبها المتمثل بإعادة فرض النظام والهدوء في المنطقة،

وعلاوة على ذلك، فقد وردت جملة أخرى من التعليقات وردود الفعل والتحليلات التي تعرضت لأسباب المذبحة التي اقترفتها سلطات الاحتلال ضد المواطنين العرب في ساحة الحرم القدسي الشريف”؛ ونظراً لأهمية هذه التعليقات وردود الفعل وضرورة الاطلاع على حقيقتها، فإننا نلخصها بما يلي:

–          قال مراسل صحيفة عل همشمار الإسرائيلية للشؤون العربية بنحاس عنبري:

–          “هناك صلة مباشرة بين الأحداث الدموية التي وقعت في ساحة الأقصى وبين أزمة الخليج، وكلما بكرنا في فهم هذه الحقيقة، فإننا نحول دون وقوع المزيد من الاضطرابات التي قد تكون أشد من هذه  التي وقعت.

–          إن اليمين المتطرف في إسرائيل يواجه ضائقة، ومحاولتهم وضع حجر الأساس للهيكل الثالث في الحرم تعكس الإحباط لديهم؛ لدينا هنا في إسرائيل الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، وهي تقود الآن حملة أرض إسرائيل الكبرى وسحق الانتفاضة والترحيل وإقامة الهيكل الثالث، غير أن هذه المحاولة هراء وتنطوي على ضرر.

–          لقد أدت أزمة الكويت أيضاً إلى زيادة حدة التوتر في مساجد الحرم، وبالتالي فإن عملية الاستفزاز التي قام بها غرشون سلمون زعيم حركة أمناء جبل الهيكل كانت كافية لإشعال القدس حتى من دون التوتر المتزايد في المساجد”.

كان اعتراف عنبري هذا من ضمن الاعترافات الإسرائيلية المعدودة التي أشارت إلى حقيقة نوايا السلطات الإسرائيلية الرسمية:

1.      إن أهلنا في القدس والمناطق المحتلة يواجهون معاً حكومة إسرائيلية هي الأكثر يمينية..

2.      ويواجهون معاً حملة تحقيق حلم الصهيونية ومشروعها الكبير في “أرض إسرائيل الكبرى”،

3.      ويواجهون تلك الحملات المسعورة الدموية الرامية إلى سحق الانتفاضة الفلسطينية وإقامة الهيكل الثالث

إنها حرب احتلالية شاملة ضد الشعب الفلسطيني وانتفاضته في الأراضي المحتلة.

–          أما صحيفة معاريف الإسرائيلية فقد عقبت على مذبحة الحرم زاعمة:

“كما حدث في حزيران 67، فقد كان هناك إجماع في الكراهية، كراهية العرب لليهود”.

–          وقالت صحيفة هآرتس في تعليقها الرئيس:

“لقد عرفت منطقة القدس حوادث عنيفة وسفك دماء طوال الأعوام الثلاثة والعشرين الماضية، غير أننا لم نر بعد كهذه الحوادث.

لقد جاء الانفجار في ساحة الحرم في ذروة موجة أحداث الانتفاضة المتجددة في منطقة القدس، وهو إنما يذكرنا بالأيام الأولى للانتفاضة، فمنذ عدة أسابيع ومنطقة القدس تشهد يومياً حوالى 40 حادثاً، وإصابة اثنين من الإسرائيليين، إضافة إلى إحراق سيارتين إسرائيليتين وإلقاء زجاجة حارقة. كذلك يشترك في التظاهرات المئات وليس العشرات من المواطنين كما كان الوضع في بداية الانتفاضة”.

وأضافت صحيفة هآرتس متحدثة عن أسباب المذبحة زاعمة: “أن أسباب تصاعد الانتفاضة في القدس يمكن أن تلقي الضوء على أحداث الأمس، ففي القدس، كما في الضفة الغربية، تم التوصل إلى اتفاق في الآونة الأخيرة بين منظمة التحرير وحركة حماس.

وعلى هذه الخلفية، شهدت الانتفاضة دفعة قوية في القدس، وليس هناك مثل الحرم القدسي يمكن أن يرأب الصدع في العالم العربي، وليس هناك غيره يستطيع توحيد الصف العربي .. إن الأساس الديني عاد مرة أخرى ليحتل قلب النزاع”.

ثم قالت صحيفة عل همشمار في مكان آخر، معلّقة على العامل الديني ذاته ودوره في المذبحة: “لا شك في أن العامل الديني النابع من مكان هذا الحادث سيذكي الأحداث الخطيرة التي تتوقعها الدوائر الأمنية الإسرائيلية خلال الأسابيع القادمة”.

إضافة إلى هذه التعليقات الصحفية، فقد تراوحت تعليقات معظم المسؤولين الإسرائيليين حول تحميل المواطنين العرب مسؤولية المذبحة:

–           فقد زعم حاييم هرتسوغ رئيس “دولة إسرائيل” قائلاً: ” إن هذه الأحداث تبرهن مرة أخرى على حساسية الوضع في هذا المكان المقدس، الذي نجحت حكومة إسرائيل في تحقيق التوازن المطلوب فيه وحرية العبادة لسنوات طويلة، وجاءت العملية المخططة على أيدي عناصر إسلامية أمس لتشويش هذا التوازن، وكانت محاولة مجرمة للمساس بحرية العبادة للجمهور اليهودي؛ إننا نأسف لفَقْدِ حياة عدد من الأشخاص نتيجة لهذا التحريض ضد جمهور المصلين اليهود..”.

–          وحمّل تيدي كوليك رئيس بلدية القدس، مسؤولية المذبحة للمواطنين العرب وشامير على حد سواء قائلاً: “آسف للقتلى والجرحى، هناك ضرورة للحفاظ على ضبط الأعصاب والتوازن في هذه المدينة، فالاعتداء على مكان مقدس لليهود أمر لا يحتمل كما هو الاعتداء على الأماكن المقدسة للمسيحيين والمسلمين”.

وقد أشار كوليك أيضاً إلى “أن أقوال إسحق شامير حول إقامة حي يهودي جديد فوق جبل الزيتون أثارت الخوف لدى العرب من الطرد وأدت إلى الاضطرابات” .

–          وعلق إسحق بيريز وزير الاستيعاب وزعيم حزب شاس آنذاك، قائلاً: “يجب أن تقوم إسرائيل بإبعاد المسؤولين عن الأحداث الخطيرة في ساحة جبل الهيكل إلى الخارج، كما أن عملية الاعتداء الوحشي على المصلين اليهود في ساحة الكوتل – حائط المبكى – تستوجب من حكومة إسرائيل نقاش وضع الوقف الإسلامي في الحرم من جديد”.

–          وطالب رفائيل إيتان وزير الزراعة وزعيم حركة “تسومت” وصاحب نظرية تشبيه العرب بالصراصير المخدرة، الحكومة الإسرائيلية “بتغيير الترتيبات المعمول بها في الحرم منذ العام 1967، والتي تشرف عليها الأوقاف الإسلامية”.

–          وصرح إبنير شاكي وزير الأديان الإسرائيلي حينئذ، قائلاً: “طلب مني رئيس الوزراء بأن أطالب شعب إسرائيل، باسمه، بأن يأتي جماعات جماعات لأداء الصلاة في ساحة الكوتل في البلدة القديمة، ويجب أن لا تسمح لأي طرف أجنبي بأن يشوش علينا بهجتنا، ويجب أن نجد طريقاً لمنع ظاهرة إلقاء الحجارة باتجاه المصلين اليهود”.

–          وخلاصة معظم المواقف الإسرائيلية الرسمية والبرلمانية والحزبية، أنها تحمّل المواطنين الفلسطينيين المصلين في باحة المسجد الأقصى مسؤولية المذبحة، بحجة أنهم “دبروا الأحداث” وقاموا “بالاعتداء” على المصلين اليهود في ساحة “حائط المبكى”، متجاهلة مسلسل الاستفزازات والاعتداءات المتواصلة التي قام ويقوم بها أفراد التنظيمات اليهودية الاستيطانية الإرهابية في القدس، وذلك تحت سمع وبصر وغطاء قوات الشرطة وحرس الحدود .

–          كما طالبت معظم الأصوات الإسرائيلية الحكومة الإسرائيلية بالاستيلاء على مفاتيح الحرم القدسي الشريف، وهذا ما حدث في أعقاب المذبحة مباشرة – والعمل على تهويده من خلال إعادة بناء ما يسمى بـ الهيكل الثالث.

–          كما طالبت تلك الأصوات بترحيل أعداد كبيرة من المواطنين الفلسطينيين تحت ذرائع أمنية وغيرها.

هذه هي حقيقة السياسة والمواقف والممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين العرب والأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، وهذا هو واقع الصراع الدائر مع سلطات الاحتلال.

أ – تقرير لجنة زامير 

استكمالاً للسياسة الإسرائيلية الرسمية إزاء المذبحة في الحرم الشريف، وفي محاولة مسرحية تمثيلية مكشوفة لتبرير تلك السياسة وتوفير الغطاء القانوني لها أمام الرأي العام المحلي والعالمي،

سارع اسحق شامير رئيس الوزراء الإسرائيلي في العاشر من تشرين الأول / أكتوبر 1990 إلى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، أطلق عليها اسم “لجنة زامير” نسبة إلى رئيسها تصفي زامير رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي سابقاً، وعضوية وكيلي وزارتي “العدل” والداخلية.

لقد أتقنت “لجنة التحقيق” الإسرائيلية دورها المرسوم الذي أنيط بها، فصاغت الغطاء القانوني المطلوب للموقف الرسمي الإسرائيلي الذي أعلنته مختلف المحافل الإسرائيلية والذي أدان كما ذكر سالفاً، المصلين العرب في المسجد الأقصى المبارك وبرر عملية إطلاق الذخيرة الحية بصورة هستيرية بغية حصد المواطنين العرب وقتلهم بالجملة.

ونحن هنا لا نعتزم الوقوف عند مسار التحقيق المسرحي وتفاصيله ونتائجه المنظورة والمتوقعة قبل أن تخرج بها اللجنة”[xv].

النقاط الأساسية التي تضمنها التقرير كما وردت في الصحف الإسرائيلية:

*   حددت لجنة زامير في استنتاجاتها، أن آلاف المصلين الفلسطينيين الذين وصلوا إلى ساحة الحرم لا لغرض الصلاة، شكّلوا العامل الأساسي للأحداث الدموية.

*  الاستخدام غير المنضبط للذخيرة الحية من قوات الشرطة: غير أن استخدامها كان مبرراً بصورة كاملة من رجال الشرطة الذين تعرضت حياتهم للخطر.

*  الحكومة الإسرائيلية هي المسؤولة عن النظام العام وضمانه في جبل الهيكل.

*   لم يطلب من اللجنة التوصل إلى استنتاجات شخصية في مجال المسؤولية المدنية والجنائية الانضباطية، وليس لديها أي صلاحية لذلك”[xvi] .

تلك كانت أبرز النقاط في تقرير لجنة زامير، التي حمّلت مسؤولية المذبحة للمصلين الفلسطينيين الذين لم يفعلوا سوى الدفاع عن أنفسهم بواسطة رشق الحجارة أمام الاعتداء المبيّت الذي شنته قوات الاحتلال ضدهم، مستخدمة كل أنواع الأسلحة والقنابل والطائرات المروحية .. كل تلك القوات .. وكل تلك الأسلحة في مواجهة نساء وأطفال وشيوخ ورجال فلسطينيين عُزّل، ورغم ذلك جاءت لجنة زامير لتحمّلهم المسؤولية كما هو متوقع.

كما أوصت اللجنة بأن تتسلم الحكومة الإسرائيلية مسؤولية الإشراف على الأماكن المقدسة الإسلامية وإدارتها بدلاً من الأوقاف الإسلامية، وقد اتخذت السلطات الإسرائيلية خطوات بهذا الاتجاه، سنأتي على ذكرها في جزء لاحق.

ومن المفيد في تحليل دور “لجنة زامير” وأهدافها، الإشارة إلى جملة الحقائق التالية:

–    إن هذه اللجنة هي لجنة إسرائيلية صرفة،

وقف على رأسها تصفي زامير رئيس الموساد الإسرائيلي سابقاً، وهو جهاز عريق موغل في الإرهاب الدموي ضد الفلسطينيين والعرب.

–    لقد شكلت اللجنة أساساً وبصورة عاجلة لتكون غطاءً تمويهياً لتلك المذبحة.

لتبرير عملية استخدام الذخيرة الحية ضد جموع الفلسطينيين العزل، وهذا ما حدث فعلاً، أي أنها لجنة مثلت دور “الخصم والحكم” في الوقت ذاته، وبالتالي لجنة أحادية الرؤية، وغير موضوعية، ولم يكن متوقعاً أن تكون كذلك.

–    إن طريقة تشكيل اللجنة معروفة ومجرَّبة،

فقد اعتادت السلطات الإسرائيلية على تشكيل مثل هذه اللجان المسرحية في أعقاب المذابح الدموية البشعة وأعمال القتل الجماعي التي نفذتها قوات الاحتلال عبر المراحل الزمنية السابقة، فعايشنا تلك المسرحيات التي نفذتها لجان التحقيق أو الاستقصاء الإسرائيلية التي تم تشكيلها على سبيل المثال لا الحصر في أعقاب المذابح الجماعية التي اقترفت في قبية وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا، علاوة على لجان وملفات التحقيق التي تقدر بالمئات والمتعلقة بانتهاكات وعمليات قتل إسرائيلية ارتكبت ضد الفلسطينيين في ظل الانتفاضة.

–       هذه هي آلية التفكير الإسرائيلي،

وهذه هي العقلية الإسرائيلية الحقيقية التي تقف وراء الممارسات الإسرائيلية المختلفة ضد الفلسطينيين وحقوقهم في الأرض المحتلة.

ب – حقائق لم تذكرها لجنة زامير

في أعقاب صدور تقرير لجنة زامير، سارع “مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة” المعروف باسم “بتسيلم”، إلى إصدار نتائج تحقيق خاص به حول أسباب وأهداف المذبحة، تطرق فيه المركز إلى حقائق لم تذكرها لجنة زامير وتجاهلتها مع سبق التخطيط والإصرار، وأهمها:

–    إن اكتفاء اللجنة (بالوصول إلى الحقيقة) بشهادات شهود من جانب واحد، لأمر جدير بالتعامل معه بشك.

–    فنّدت منظمة بتسيلم أقوال شهود الشرطة أمام اللجنة بأنهم لم يروا سيارات الإسعاف العربية عندما أطلق النار عليها في باحة الأقصى المبارك، وأكدت ما قالته الممرضة العربية فاطمة أبو خضير بأنها شاهدت الجنود وهم يوجهون فوهات بنادقهم باتجاه سيارات الإسعاف.

–    لم تعالج اللجنة في تقريرها موضوع إطلاق الذخيرة الحية باتجاه المواطنين العرب بصورة جدية، ولم تتحدث عنه إلا بحوالى 200 كلمة فقط، فيما يشتمل التقرير على 60 صفحة.

–    قوات الأمن الإسرائيلية أطلقت النار باتجاه ظهور المواطنين العرب، وليس في حالة المجابهة وجهاً لوجه.

–    على عكس لجان التحقيق التي تتمتع بمكانة قانونية محددة، فإن لجان استقصاء من نوع لجنة زامير إنما كانت دائماً “لمبة” في أيدي القيادات السياسية التي يهمها أن تخرج نظيفة من الأحداث”.

إذن تلك هي بعض الحقائق التي أغفلتها لجنة زامير عن سبق تخطيط ونية مبيّتة كما أكدت الصحف الإسرائيلية، وتلك هي الخلاصة التي أكدتها صحيفة دافار في الموضوع نفسه، وهي أن لجنة زامير إنما هي لجنة صورية وأداة بأيدي الحكومة الإسرائيلية، تم تشكيلها على وجه السرعة من اسحق شامير في ضوء ردود الفعل والضغوط العربية والدولية التي تسارعت في أعقاب مذبحة الاثنين في باحة الأقصى المبارك.

4-3-2-  الموقف الدولي من المذبحة

في ضوء حجم وبربرية المذبحة الجماعية التي اقترفتها القوات الإسرائيلية في باحة الأقصى المبارك، وفي ضوء انكشاف عمق تورط السلطات الرسمية عبر قواتها وأجهزتها المختلفة في المذبحة، لم تستطع الولايات المتحدة وحلفاء “إسرائيل” في مجلس الأمن الدولي التستر على هذه الجريمة الإسرائيلية والدفاع عن موقف “إسرائيل” بالوقاحة والصلف المعهودين في مسلسل المواقف السابقة.

لقد انتقلت المذبحة إلى أروقة مجلس الأمن بسرعة كبيرة بمبادرة منظمة التحرير والدول العربية، ولم يكن بوسع الإدارة الأمريكية مساندة هذه الجريمة الإسرائيلية في ظل تصاعد أزمة الخليج، وتصاعد التكالب العدائي ضد العراق والأمة العربية، فبعد أن تمكنت الولايات المتحدة من تجنيد “الشرعية الدولية” ممثلة بالقرارات المتلاحقة التي اتخذها مجلس الأمن ضد العراق، و”الشرعية العربية” المزعومة، وتجييرهما لصالح سياستها العدوانية وحملتها العدوانية الشرسة ضد العراق العربي والأمة العربية، لم تتمكن الإدارة الأمريكية من الإخلال بهذا الميزان، ولذلك وتحت زعم التمسك بالشرعية الدولية وإرضاء للحلفاء العرب الذين تهافتوا للاصطفاف في الخندق الأمريكي، ومحاولة للإبقاء على هذا الطوق والحلف الدولي ضد العراق، جاء الموقف الأمريكي مناورة وتكتيكاً وتضليلاً مؤيداً لقرار مجلس الأمن رقم (672)، الذي تضمن إدانة لإسرائيل وإرسال لجنة لتقصي الحقائق حول المذبحة في الحرم”.

كانت هذه هي المرة الأولى التي يتخذ فيها مجلس الأمن قراراً مرناً ضد “إسرائيل” بعد عملية مخاض طالت كثيراً بسبب الاعتراضات والتعديلات الأمريكية.

أ –  قرار مجلس الأمن رقم (672)

بعد أن جاء الرفض الإسرائيلي، للقرار المشار إليه، سافراً صلفاً مستهتراً، بادرت مجموعة من الدول العربية ودول العالم الثالث إلى طرح مبادرة تدعو مجلس الأمن إلى فرض عقوبات ضد “إسرائيل” بسبب رفضها للقرار وعدم التزامها “بالشرعية الدولية”

غير أن الولايات المتحدة تدخلت من جديد مع عدد من الدول الحليفة وأتقنت دورها من وراء الكواليس، وتمكنت من تخفيف صيغة المبادرة مرة أخرى لتخرج الصيغة النهائية للقرار كما يلي: –

” .. إن مجلس الأمن يعرب عن جزعه إزاء رفض الحكومة الإسرائيلية لقرار المجلس 672 (1990)، ورفضها قبول بعثة الأمين العام .. ويشجب رفض الحكومة الإسرائيلية استقبال بعثة الأمين العام .. ويحث الحكومة الإسرائيلية على إعادة النظر في قرارها، على أن تمتثل امتثالاً تاماً للقرار 672، وأن تسمح لبعثة الأمين العام بالمضي قدماً؛ وفقاً للغرض، يطلب إلى الأمين العام أن يقدم للمجلس التقرير المطلوب في القرار 672 .. ويؤكد عزمه على النظر في التقرير بصورة كاملة على وجه السرعة”.

وكما رفضت الحكومة الإسرائيلية القرار الدولي رقم (672)، سارعت إلى رفض القرار الجديد ( 673) رفضاً قاطعاً، مؤكدة أنها لن تستقبل أي وفد من جانب الأمم المتحدة،

ورغم محاولات الإدارة الأمريكية إقناع الحكومة الإسرائيلية باستقبال مبعوث خاص للسكرتير العام للأمم المتحدة لتقصي الحقائق في المناطق، لكنها كانت من دون طائل أو نتيجة، فالرفض الإسرائيلي استمر، وبدلاً من الوفد الدولي و”تقصي الحقائق” من طرف دولي، كمبعوث السكرتير العام للأمم المتحدة، طالبت الحكومة الإسرائيلية بأن يقبل مجلس الأمن ويكتفي بتقرير “لجنة زامير” التي شكلها شامير.

وفعلاً بعد أن خرجت “لجنة زامير” بتقريرها المذكور أرسلت الحكومة الإسرائيلية نسخاً عنه إلى الإدارة الأمريكية وأعضاء مجلس الأمن والسكرتير العام للأمم المتحدة.

قامت الإدارة الأمريكية بـ “دراسة التقرير، فوجدت فيه نقاطاً إيجابية عديدة”، استحقت المديح والثناء والاكتفاء بذلك.

غير أن السكرتير العام للأمم المتحدة أعلن أنه لا يمكن الاكتفاء بتقرير لجنة زامير وأن على “إسرائيل” أن تلتزم بتطبيق القرارات الدولية.

ب –  مبادرة السكرتير العام لحماية الفلسطينيين:

استمراراً لموقف السكرتير العام للأمم المتحدة في هذه المسألة، أعلن في مطلع تشرين الثاني سنة 1990، عن مبادرة جديدة “تدعو دول هيئة الأمم إلى بحث سبل حماية السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة”.

وكما في المواقف السابقة إزاء قراري مجلس الأمن المذكورين، رفضت الحكومة الإسرائيلية مرة ثالثة مبادرة السكرتير العام للأمم المتحدة

التي اعتبرتها محافل إسرائيلية رسمية عديدة بأنها مقلقة، وأعربت وزارة الخارجية الإسرائيلية عن خيبة أملها من هذه المبادرة في وثيقة سُلِّمَت إلى السفارات الأجنبية وسفارة الأمم المتحدة في إسرائيل.

وجاء في وثيقة الرفض الإسرائيلي:

1- أن إسرائيل تعلن عن خيبة أملها من الموقف أحادي الجانب في التقرير، فالتوصيات المتضمنة فيه موجهة فقط ضد إسرائيل، ولم تستصوب دعوة الجانب الفلسطيني إلى وقف العنف.

2- وفوق كل ذلك، فإن الدعوة التي لم يسبق لها مثيل إلى عقد اجتماع للدول الموقعة على ميثاق جنيف، هي سياسة خطيرة، تشكل مساساً خطيراً بموضوعية جهاز إنساني هام.

3- أن إسرائيل هي المسؤولة وفقاً للقانون الدولي، عن إدارة المناطق، وفرض الأمن والنظام ..

4- أن إسرائيل لن تقبل باستغلال أطراف أجنبية لحادثة مؤسفة أساسها الاستفزاز من أجل المساس بسيادة إسرائيل على القدس..  .

هكذا جاءت اللاءات الإسرائيلية الرسمية المذكورة لقرارات مجلس الأمن ومبادرة السكرتير العام للأمم المتحدة، استمراراً لسياسة اللاءات الإسرائيلية المعروفة المعمول بها في كل زمان وقضية وقرار على صلة بالحقوق الفلسطينية.

4-3-3-   ردود الفعل الفلسطينية العربية

هزت  المذبحة الإسرائيلية البشعة ضد الفلسطينيين في قلب الحرم القدسي الشريف أوصال الجسم الفلسطيني/العربي داخل الأرض المحتلة وخارجها.

على صعيد الخارج قادت منظمة التحرير والأردن والدول العربية الحليفة تلك الحملة الدبلوماسية المكثفة في أروقة الأمم المتحدة، التي تمخضت عن:

–           قراري مجلس الأمن (672) و (673)، اللذين أدانا ” إسرائيل “، وطالباها بالامتثال الدولي،

–          مبادرة السكرتير العام للأمم المتحدة الداعية إلى بحث سبل حماية الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.

وشكل القراران والمبادرة معاً إنجازاً دبلوماسياً / سياسياً للمنظمة والدول العربية التي وقفت معها أو بادرت إلى جانبها في هذا النطاق.

وإلى جانب هذا الدور الدبلوماسي/السياسي، ساهمت المنظمة والدول العربية المذكورة:

–          في توفير الغطاء الإعلامي المركّز والواسع لتفاصيل وأبعاد ومضاعفات المذبحة الإسرائيلية من جهة،

–          وفي فضح الوجه الإسرائيلي القبيح من جهة أخرى،

 ما أدى إلى عزلة جزئية ومرحلية للكيان الإسرائيلي على مستوى هيئة الأمم، رغم المحاولات المركزة التي بذلتها الإدارة الأمريكية للتخفيف من حدة هذه العزلة وحدة بشاعة الوجه الإسرائيلي.

إضافة إلى ذلك بادرت منظمة التحرير الفلسطينية يوم 7/11/1990 إلى دعوة الأمم المتحدة لعقد اجتماع عاجل لبحث:

–          موضوع حماية الفلسطينيين في الأرض المحتلة من جهة.

–          ومسألة فرض عقوبات على ” إسرائيل ” لرفضها تنفيذ قراري مجلس الأمن من جهة أخرى.

أ –  شهادات وتطبيقات:

–          لقد تضمنت الرواية الإسرائيلية الرسمية لمجزرة الأقصى ثلاثة بنود أساسية، هي:

1-      أن أحداث الحرم قامت بتخطيط وتحريض مسبقين من قيادة منظمة التحرير وبتنفيذ مؤيدين لها في الداخل.

2- أن الحادث وقع في الأساس نتيجة قيام متطرفين عرب بالاعتداء على مصلين يهود آمنين..

3- إذا حدث تقصير إسرائيلي، فهو ناجم فقط عن عدم الاستعداد الكافي لمواجهة هذه المؤامرة الإسلامية.. .

–          أبرزت لجنة زامير عملية الحصد الجماعي للمصلين الفلسطينيين الذين سقطوا في باحة الأقصى، إذ أجمعوا كلهم على أن قوات الاحتلال أطلقت نيران المدافع الرشاشة بكثافة بهدف حصد المصلين العرب وقتلهم،

“وأن المذبحة جرت باعتداء بوليسي ضد مجموعة من النساء الفلسطينيات قرب قبة الصخرة” .. الخ .

–          أكد د.صالح عبد الجواد من القدس المحتلة في محاضرة ألقاها مساء 5/11/1990 في المركز العلمي الثقافي في مؤسسة عبد الحميد شومان ، حول المذبحة:

” كانت المذبحة مخططة ومُعَدّاً لها مسبقاً.  وهناك شواهد كثيرة على ذلك، منها أن السلطات الإسرائيلية قامت بمنع السياح من دخول الحرم من الساعة الثامنة صباحاً، ثم أقامت الحواجز لمنع دخول المواطنين إلى الحرم، ثم أغلقت أبواب الحرم. وفي الساعة 10.45 صباحاً سقطت 5 قنابل مسيلة للدموع على تجمع للنساء الفلسطينيات دون سابق استفزاز أو عمل من جانب العرب، وبعد ذلك فقط قام عدد من الشبان بالتوجه لحماية النساء، وحينها اقتحمت القوات الحرم من جهة باب الأسباط البعيد عن باحة الأقصى، حيث كانت جاهزة ومستعدة، وأخذت تلك القوات تطلق النيران الكثيفة”.  ثم أكد المحاضِر على أن “معظم الإصابات كانت في الرأس والقلب”.

–          نشرت مجلة “هعولام هزيه” الإسرائيلية في تقرير واسع حول تفاصيل المذبحة، ما قالته الممرضة فاطمة أبو خضير التي أصيبت برصاصة حطمت معصم يدها:

” .. دخلتُ بسيارة الإسعاف إلى باحة الأقصى، فشاهدت عدداً كبيراً من المصابين ساقطين على الأرض .. ثم رأيت كثيراً من الجنود، مئات الجنود، على مسافة 30 متراً من سيارة الإسعاف، يجلسون على ركبة ونصف على طريقة القناصين، وأسلحتهم موجهة إلى داخل سيارة الإسعاف، وبعد ذلك لم أستطع رؤية شيء” .

–          قال الطبيب محمد أبو عايلة الذي أصيب هو الآخر برصاص الجنود عندما كان يقوم بواجبه الإنساني:

“خرجت من سيارة الإسعاف حاملاً حقيبة الإسعافات الأولية، وكنت أرتدي اللباس الأبيض، وقد شاهدني الجنود وعرفوا أنني طبيب، وعندما وصلت إلى المصاب الأول الذي كان بقربي لأسعفه انحنيت عليه لمعالجته، فأصبت بثلاث رصاصات في ظهري في منطقة الكلى، وفي هذه اللحظة استشهد أحد المصابين، وكان يمكن إنقاذه لو لم أصب .. “.

–          قال أحد سدنة الحرم الشريف:

” … في باحة الأقصى أخذ عدد من الشبان ينشدون أناشيد دينية ويرددون شعارات دينية، وفجأة امتلأ المكان بقنابل الغازات السامة”[xxvii].

–          قال المواطن هشام النتشة الذي أصيب برصاصة في رقبته:

“لقد أطلقوا النيران على جميع المصلين ومن كل الاتجاهات”.

–          عزز الممرض محمود المصري قول النتشة:

“أطلقوا النار دون أي استفزاز مسبق، وانتقد الجنود مسألة رشق الحجارة”.

–          تحدث الشيخ عكرمة صبري، إمام الأقصى، في محاضرة ألقاها أمام نادي “الجذور” في أم الفحم، ونلخص هنا مجمل شهادات وتعليقات الفلسطينيين بما قاله، إذ أكد:

“منذ حملة الفرنجة، لم يعرف الأقصى مذبحة كهذه، إنها وصمة سوداء في جبين الصهيونية، يجب أن نؤكد عليها صباح مساء من أجل الكشف عن حقيقة حكام إسرائيل المسؤولين مباشرة عن المذبحة ..

إن المصلين المسلمين لم يرشقوا الحجارة على المصلين في ساحة حائط المبكى، إذ قد أخلى أفراد الشرطة المصلين اليهود قبل ذلك والصورة التي بثها التلفزيون الإسرائيلي هي صورة أرشيفية”.

إذن هذه هي الحقائق الفلسطينية حول المذبحة المشفوعة بدماء نساء وأطفال وشيوخ فلسطينيين، نزفت غزيرة لتخضب أرض الأقصى، كما يتضح من تفاصيل التقارير الواردة حول المذبحة.

ب –  تقرير الهيئة الإسلامية العليا:

أعلنت لجنة تقصي وجمع الحقائق المنبثقة عن الهيئة الإسلامية العليا في القدس في وقت لاحق من الشهر ذاته، عن نتائج التحقيق الذي أجرته حول المذبحة، فأسقطت من جهة كل مزاعم لجنة زامير الإسرائيلية، وعززت من جهة أخرى شهادات وأقوال الشهود العيان العرب حول التخطيط المسبق والمبيّت للمذبحة.

وجاء في نص التقرير:

1-      “الأحداث المأساوية التي وقعت يوم الشهداء، يوم الاثنين 8/10/1990، لم تكن حادثة عفوية، وإنما عمل مبيّت ومخطَّط له من قيادة حرس الحدود والشرطة.

2- إطلاق النار العشوائي وبكثافة ووحشية وهمجية هو بقصد القتل وحده، ومن دون أي مبرر أو تمييز بين امرأة أو طفل أو كهل أو شجر أو حجر، كما أن القنص كان مستعملاً، واستهدف القناصون الرأس والصدر.

3- بلغت حصيلة يوم الشهداء ثمانية عشر شهيداً ومئات الجرحى والمعتقلين.

4- قذف المسلمون الحجارة على الجنود المعتدين بعد أن تعرضوا لإطلاق الرصاص الحي والقنابل الغازية عليهم للدفاع عن أنفسهم”.

–          وكان فلسطينيو الأراضي المحتلة، قد استقبلوا قبل ذلك نتائج لجنة زامير للتحقيق في مجزرة الأقصى بمزيد من الحنق والسخرية واللامبالاة

مؤكدين: “إذا كان القاضي غريمك لمين تشتكي”.

–          وقال عدنان الحسيني مدير أوقاف القدس:

“تحميل الفلسطينيين المسؤولية كان أمراً متوقعاً.  لقد أدركنا منذ اليوم الأول لتشكيل لجنة زامير أنه تقرير مبتور، لم يأخذ بالحسبان الاستفزازات التي دعت المسلمين إلى التجمّع في الأقصى”.

–          وأكد أنور الخطيب، من رؤساء المجلس الإسلامي الأعلى:

“نتائج تقرير لجنة زامير ليست مفاجأة، من الواضح أن المسؤول الحقيقي عن كل حادث هو شامير وسياسته”.

–          وقال خالد الأشهب من البلدة القديمة في القدس:

“نتائج لجنة زامير مثل نتائج لجان مجازر سابقة – كفر قاسم، وقبية، وصبرا وشاتيلا – ونتائج لاحقة”.

–          وشارك العديد من الفلسطينيين خالد الرأي، فعلّقوا بسخرية على نتائج لجنة زامير قائلين:

“النتائج كانت موضوعية لأن الشرطة لم تطلق النار في الهواء هذه المرة، على ما يبدو لقد كف الفلسطينيون عن السير في الهواء.. “.