Khan younis

مجزرة خان يونس:

تصادف في الثاني من تشرين الثاني من كل عام ذكرى مجازر 1956 التي ارتكبها الاحتلال في خان يونس إبان العدوان الثلاثي على مصر، وراح ضحيتها أكثر من 500 شهيد وشهيدة من أبناء شعبنا؛

وذلك بعد أربعة أيام من مذبحة كفر قاسم التي راح ضحيتها 49 شهيداً من الشيوخ والنساء والأطفال، وبعد ثلاثة وعشرين يوماً من مذبحة المركز في قلقيلية، لتتعانق أرواح هؤلاء الشهداء مع أرواح شهداء انتفاضة الأقصى، فاضحة تعطُّش الاحتلال للدم ومؤكدة على أن الصهاينة مستمرون في جرائمهم ومجازرهم التي كان آخرها مجزرة بيت ريما والتي راح ضحيتها عشرة شهداء، وعلى أن شعبنا لم يرفع الراية البيضاء وإنما يواصل مقاومته وجهاده رغم حجم التضحيات والضغوطات.

ويتذكر كبار السن والناجون مشاهد دامية من المجزرة التي تعكس وحشية الاحتلال واستهتاره بالأعراف والقيم الإنسانية، مجددين مطالبهم بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في المجزرة وغيرها من المجازر البشعة التي ارتكبت بحق شعبنا ومعاقبة المسؤولين عنها.

يروي الحاج عبد الرؤوف بدران، 103 أعوام، الذي يعتبر شاهداً على قرن فلسطيني مليء بالمآسي والتشرد، البدايات الأولى للمجزرة، عندما رفض الأهالي التسليم للقوات الإسرائيلية التي اجتاحت سيناء ورفح واحتلت غزة، وأصروا على المقاومة والدفاع عن المدينة، واستذكر كيف انهالت القنابل من الطائرات والدبابات على المساكن لإخماد المقاومة، وهو الأمر الذي أوقع العشرات من القتلى والجرحى، ودبت حالة من الهلع والرعب بين المواطنين، وهو ما مكّن جنود الاحتلال من اقتحام المدينة ليبدأوا عملية انتقام وحشية. وأضاف وهو يهتز بانفعال شديد متذكراً تلك الأيام السوداء: “لم نكن نتوقع أن تصل الوحشية إلى هذه الدرجة .. فكانوا يسوقون الرجال والشباب ويجمعونهم في الساحات العامة ثم يطلقون النار عليهم بلا رحمة”.  وفقاً للباحث الدكتور محمد الفرا الذي وضع كتاباً حول خان يونس ماضيها وحاضرها، فإن جنود الاحتلال قاموا في العام 1956 بدخول المنازل دون استئذان أهلها وقاموا بكسر أبواب المنازل التي لم يفتحها سكانها بالسرعة المطلوبة، وكانوا يطلقون النار بلا هوادة أو رحمة على كل رجل أو فتى، على مرأى من والديه وإخوانه الصغار، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 500 شهيد فضلاً عن مئات الجرحى.

3-12-1-  مذبحة الشيخ عمري

ويتذكر عبد المجيد “أبو محمد” الذي كان عمره إبان المجزرة 13 عاماً، كيف هجم جنود الاحتلال على منزلهم في منطقة القرار واقتادوه مع شقيقه الأكبر عبد الرحيم ومجموعة من الشباب إلى منطقة الشيخ عمري، مشيراً إلى أن أحد الجنود طلب منه الابتعاد عن المجموعة والعودة من حيث أتى، ليشاهدهم بعد ذلك يطلقون النار على الشباب الذين يبلغ عددهم حوالى 50 شاباً، وذلك بدم بارد ودون سبب،

فيبدأ الشباب المصابون بالسقوط مضرجين بدمائهم، فيما حاول بعضهم الهرب من المكان أو التظاهر بالموت، وبدأ التأثر على “أبو محمد” وهو يتذكر هذا المشهد المرعب، مشيراً إلى أنه سارع إلى الهرب من المكان والعودة إلى منزله وهو يرتجف رعباً من هول المشهد الذي شاهده. والتقطت أم العبد الكلام من ابنها -“أبو محمد”- مشيرة إلى أنها بعد سماعها تفاصيل الحدث، انطلقت دون وعي إلى المنطقة التي نفذت فيها المذبحة لتجد أن ابنها عبد الرحيم لفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن أصابته عدة رصاصات قاتلة، فيما كان حوله مجموعة من الشهداء والجرحى الذين يلفظون أنفاسهم الأخيرة، وتتذكر أم العبد التي ارتسم وجهها بتجاعيد الزمن وأهوال الأحداث، كيف واتتها الجرأة لتلبي رغبة الجرحى الأخيرة في الحصول على الماء، مشيرة إلى أن المواطنين بدأوا بعد ذلك بالتجمع ونقل جثث الشهداء ودفنها ومعالجة الجرحى .

3-12-2-  مخطط إجرامي

وقال عبد القادر الأسطل الذي نجا من هذه المذبحة، إنه في صباح المجزرة بدأ الجنود بجمع شباب القرية حتى وصل العدد إلى ما يقارب الخمسين، ثم أمرونا بأن نصطف في طابور واحد، فأخبرنا الجنود بأنهم سيقتلون الأول في الطابور ثم يقوم الاثنان اللذان يليانه بحمله وإلقائه إلى جانب الطريق. وبالفعل، بدأ الجنود مخططهم الإجرامي، فاستشهد عشرة شباب، مشيراً إلى أن القتل لم يتوقف إلا بعد أن وصلت دورية إسرائيلية إلى المكان وتوجهت القوة إلى منطقة الشيخ عمري واقتحمت ديوان آل فياض وقتلت كل من وجِد فيه، لتسفر هذه المجازر عن قتل 25 شاباً، منهم عبد الرحيم عبد الغفور وعبد الله فياض ومحمد فياض وعبد العزيز فياض وعبد الرزاق فياض، وسليم الشامي وسلمان الشامي؛ ويعتبر الأسطل أنه آن الأوان لفتح ملف هذه المجزرة ومعاقبة المسؤولين عنها، داعياً المحامين إلى تبني مسؤولية المتابعة القانونية.

3-12-3-  الشهداء يسبحون في دمائهم

من جانبه، وصف الناجي أبو يوسف عاشور، 75 عاماً، وحشية جنود الاحتلال في مجزرة ثانية وقعت في مخيم خان يونس وسقط فيها ثلاثون شهيداً، فيما أصيب هو بجراح لا يزال يعاني منها إلى الآن، مشيراً إلى أن الجنود هجموا على المنطقة وكسروا الأبواب وأخرجوا كل من يزيد عمره على خمسة عشر عاماً واتجهوا بنا إلى منطقة النادي، حيث تم تجميع الشباب هناك وتم إجبارهم على الاصطفاف في طوابير ثم انهال علينا الرصاص من كل الجهات، فسقط الشهداء؛ وتابع عاشور بتأثّر بالغ: “وقعت على الأرض من الرعب والخوف وتظاهرت بالموت” مشيراً إلى أن الجنود لم يتركوا المنطقة إلا وهي غارقة في بركة من الدماء .

3-12-4-  دعوة للتحقيق في الجريمة

ويرفع عاشور صوته إلى جانب الأصوات المطالبة بالتحقيق في هذه الجريمة ومعاقبة المسؤولين عنها، مشيراً إلى أنه يسمع بين فترة وأخرى عن جهود لمتابعة القضية، ثم يتم تجاهلها بعد انقضاء الذكرى، مشدداً على أن الواجب يتطلب بذل جهد حقيقي بما يضمن حقوق ذوي شهداء وجرحى هذه المجزرة، خاصة أن مسلسل المجازر مستمر، ويمكن متابعة هذه القضايا كلها في المحاكم الدولية.

وعقّب د. كمال الأسطل رئيس قسم العلوم السياسية على مطالب الأهالي والناجين بقوله، إن المجازر تعتبر جريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي وفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة، وإنه من حق الشعب الفلسطيني أن يطالب بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في الجريمة التي راح ضحيتها المئات من المدنيين، وذلك بعد احتلال المدينة من الجيش الإسرائيلي، كما من حقه المطالبة بمعاقبة المتسببين في المجازر الحالية والمستمرة.

وتبقى هذه الشهادات الحية التي قدمناها صورة من الصور العديدة لتلك المجزرة البشعة ونموذجاً من التاريخ الأسود للاحتلال في المنطقة، التي تثبت اليوم أن شعبنا قادر على البقاء والتشبث بأرضه رغم محاولات التطهير والتشريد حتى يتمكن من إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.