Kafr-Kasem

مجزرة كفر قاسم:

–          في إطار استعداداتها للعدوان الثلاثي على مصر، اتخذت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إجراءات تشديد وقمع ومحاصرة شاملة للسكان العرب في المناطق المحتلة 1948، بحجة ضمان الأمن الداخلي خلال العدوان على مصر.

–          وفي ليلة 28/10/1956 ، تمّ ضم فرقة من حرس الحدود إلى فرقة من الجيش الإسرائيلي، ووضعت القوة تحت إمرة المقدم يششكار شدمي.

–          وفي صبيحة 29/10/1956 أبلغ قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال العميد “تصفي تسور” كل الضباط العاملين تحت إمرته، بالسياسة التي ستتبع ضد السكان العرب،

وشدد تسور على أن ضمان العمليات العسكرية التي ستنفذ في الجنوب (الهجوم على قطاع غزة وسيناء) يتطلب المحافظة على الهدوء التام في المناطق العربية، وطلب منه المقدم شدمي أن يلجأ إلى فرض حظر التجوال على القرى العربية في المنطقة – أي قرى المثلث – وتم إعطاء هذا التصريح. وفعلاً، تم إعلان حظر التجوال في كل القرى العربية : كفر قاسم ، كفر بره، جلجولية ، الطيرة الطيبة قلنسوه ، بير السكة ، ابطن ،

–          وصدر الأمر العسكري الذي تم إعلانه على السكان العرب وهذا نصه: “لن يسمح لأي من السكان بمغادرة بيته خلال ساعات منع التجول .. من يترك بيته نطلق عليه النار، ولن يعتقل أحد”.

وأعلن المقدم شدمي: “أن حظر التجوال سيكون حازماً، وسيحافظ على تنفيذ هذه الأوامر بيد قوية، ليس من خلال الاعتقالات، وإنما بإطلاق النار”؛ وعندما سأل الرائد إبراهام هيلنكي قائده شدمي عن مصير المواطن العائد من عمله خارج القرية دون علم بفرض أمر منع التجول، أجابه المقدم شدمي: “لا أريد عواطف .. الله يرحمه”.

وهكذا قام الرائد هيلنكي مزودا بالأوامر والتعليمات بعقد اجتماع في مقر قيادته حضره كل الضباط المنضوين تحت إمرته، ونقل لهم هذه الأوامر، وأجاب على تساؤلاتهم بصراحة ومن ضمن ما قاله لهم:

” يجب قتل كل من يوجد خارج البيت بإطلاق النار عليه، ولن يكون هناك معتقلون، وإذا حدث في الليل وسقط بعض القتلى، فهذا سيخفف من أعباء فرض منع التجول في الليالي القادمة “.

–          وبعد ذلك جرى توزيع فرق من الجنود على قرى المثلث، وتوجهت قوة بقيادة الرائد غبرائيل دهان إلى قرية كفر قاسم، حيث قام بتوزيع جنوده إلى أربع مجموعات، اتخذت مواقعها على مداخل القرية وفي داخلها.

–          وفي الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم 29/10/1956 وقبل نصف ساعة من بدء فرض حظر التجول حسب ما أعلن، استدعى رقيب من حرس الحدود مختار قرية كفر قاسم وديع أحمد صرصور وأبلغه بأمر منع التجول، وعندما أخبره المختار أن هناك حوالى 400 مواطن من أهالي القرية لا زالوا في أماكن عملهم خارج القرية وفي أراضيهم، وأنه لا يمكن تبليغهم بأمر منع التجول في فترة نصف ساعة، وعده الرقيب بالسماح بمرور العمال العائدين إلى القرية وأن الأمر سيكون على مسؤوليته ومسؤولية الحكومة.

–          وفي الساعة الخامسة، وهو موعد عودة العمال والمزارعين العرب إلى القرية، بدأت المذبحة؛ إذ كانوا يعودون أفراداً وجماعات على الدراجات أو عربات الخيول أو في السيارات، وكان الجنود يستقبلونهم على مداخل القرية، ثم يأمرونهم بالوقوف والترجُّل، ثم يسألونهم : “من أي قرية أنتم؟” وبعد الإجابة “من كفر قاسم”، كان الضابط يأمرهم بالوقوف صفاً واحداً ويصدر لجنوده أمراً بإطلاق النار عليهم بقوله: “احصدوهم”.

وكان الرائد دهان يشترك مع جنوده في إطلاق النار على العائدين إلى القرية، وكان الجنود بعدها يكدسون الجثث (وبعض الجرحى) على قارعة الطريق، وخلال ساعة واحدة قامت هذه الفرقة من حرس الحدود بقتل حوالى خمسين عربياً من أبناء القرية منهم: 31 من الشباب والرجال، و9 نساء بين شابات ومسنّات، و7 أولاد وبنات.

3-11-1-  شهادات ميدانية

–          وفي وصفها لما حدث بعد المجزرة بأسبوع، قالت إحدى المسنّات من أهالي كفر قاسم والتي استدعيت للتعرف على جثة زوجها، وكيف أن أهالي القرية مُنعوا من دفن موتاهم: “لقد أحضروا أشخاصاً من قرية جلجولية لدفن الموتى بشكل عشوائي، ومن بين التراب كانت تظهر أيدي وأرجل ورؤوس”.

–          ويقول المواطن عبد الرحيم عيسى الذي كان يبلغ الخامسة عشرة من عمره آنذاك، واصفاً ما شاهده من المذبحة: “في الساعة الخامسة بالضبط كما أذكر، فرضت قوات الاحتلال حظر التجوال على قرى المثلث، أي قبل إعلان العدوان على مصر بدقيقة واحدة، وكانت الأجواء متوترة، إذ إن الفدائيين يقومون بعمليات ضد قوات جيش الاحتلال؛ وأُخضِعَت القرى العربية للحكم العسكري وحالة الطوارئ. وفي ذلك اليوم – يوم المذبحة – تم تقديم موعد حظر التجوال – عن سبق إصرار وتخطيط – في حين كان جنود الاحتلال يعلمون أن عدداً كبيراً من العمال والمزارعين العرب لم يعودوا إلى بيوتهم”.

–          ويقول المواطن خضر محمود بدر: “لقد توقفت إلى جانب الطريق، ووقف إلى جانبي ثلاثة عمال من عمال الكسارات، وفجأة سألنا أحد الجنود: من أين أنتم؟ وعندما سمع الرد بأننا من كفر قاسم تراجع إلى الوراء قليلاً: ” احصدوهم “؛ وكانت النيران كثيفة جداً، وفجأة سقط فوقي بعض الأشخاص وتقدم الجنود نحونا، وبدأوا يرموننا من فوق الجدار، وصرخ ابن عم والدي الذي كان قريباً مني: أطفالي، أطفالي، ولكن أحد الجنود عاجله بتحطيم رأسه، وأنا لم أشعر بشيء، لقد حاولت أن أتقدم ولم أستطع، فقد أصبت بساقي .. وقد قتل اثنان من العمال الثلاثة فوراً، أما الثالث فتظاهر بالموت ونجح في الاختفاء بين قطيع من الماشية، والوصول تحت ستاره إلى القرية “.

ويتابع المواطن بدر قائلاً: “لقد حاولت التقدم بمساعدة يدي، وكنت طوال الوقت أسمع صرخات فظيعة، وفجأة لا أعرف من أين جاءتني القوة فأمسكت بغصن ضجرة زيتون وتسترت بها، وكنت أسمع باستمرار دوي الرصاص وأصوات الصراخ، وكان جهاز الاتصال في أيدي الجنود يكرر دون توقف: “قتلنا عشرة من العرب .. قتلنا .. قتلنا ” .

–          ويقول المواطن صلاح خليل عيسى الذي كان في الثامنة عشرة من عمره آنذاك: “وصلت إلى الحاجز العسكري شاحنة مليئة بالعمال العرب .. فسمحوا لها بالمرور وهي على بعد بضعة أمتار منهم، أطلق الجنود نيراناً كثيفة باتجاه من في داخلها، وكنت أنا أشاهدهم من إحدى البساتين القريبة”؛ وقد قتل نتيجة لذلك ثلاثة عشر مواطناً عربياً، وأصيب عدد آخر بجروح، أما أنا فقد أصبت في يدي وساقي، وبعد قليل وصل بعض العمال العرب، فسمعت أحد الجنود يصرخ قائلاً: “احصدوهم”، وسقط بعضهم على الأرض، وبعد حوالى ربع ساعة وصلت شاحنة أخرى كانت تقل 19 عاملاً عربياً تقريباً، فأنزلوهم جميعاً من الشاحنة وأوقفوهم صفاً واحداً وأطلقوا النار عليهم مرة واحدة بكثافة، وبدأ الجنود يجرون الجثث وأنا تظاهرت بأني ميت فسحبني أحد الجنود ورماني فوق الجثث، وبصمت وهدوء كبير زحفت إلى شجرة زيتون قريبة وصعدت على أحد فروعها العريضة وبقيت حتى الصباح “.

–          ويتحدث المواطن عبد الرحيم عن المذبحة قائلاً: “كنت آنذاك في السابعة عشرة من عمري، وكنت أعمل في أرضنا، وفي المساء نفسه سمعنا أصوات الرصاص فاعتقدنا أن هناك إطلاق نار على الحدود الأردنية، ولم نعلم أنهم فرضوا حظر التجوال، فأرسل والدي أحد أشقائي ليستدعيني، وعدنا على ظهر شاحنة.  وعلى مدخل القرية، حيث نصب الجنود الحاجز العسكري، توقفت الشاحنة وصعد بعض الجنود وأخذوا يطلقون النار علينا، فارتمينا جميعاً على بطوننا وبدأ الجنود يسألوننا من أين أنتم وأين كنتم؟ ولم ينتظروا الرد، وأنزلونا جميعاً وأوقفونا صفاً واحداً، وفجأة أصدر قائد الحاجز أمراً للجنود قائلاً: “احصدوهم”. وكان شقيقي يقف خلفي، فضغط على بطني، وعندما أطلقوا النار باتجاهنا سقطنا معاً على الأرض، واستمر شقيقي يضغط علي وأصبت أنا بساقي اليسرى، وبدأ الجنود يمرون علينا واحداً واحداً لفرز الحي من الميت فينا، فتظاهرتُ بالموت، عندها وصل أحد الجنود عندي وقد تحركت ساقي المصابة، وفجأة بدأ شقيقي يهدئني، وأنا أردت أن أوقفه عن الحديث بواسطة يدي، فأطلق الجنود على يدي وبدأ شقيقي يصرخ؛ حينها، أطلقوا النار على رأسه، فخرجت الرصاصات من الجانب الآخر وصمت. وبعد أن كانت يده تضغط على بطني شعرت بأنها ارتخت وسقطت تماماً.

–          وبعد حوالى نصف ساعة وصلت سيارة تقل فتيات عربيات، وفجأة قالت إحداهن: “ها هم على الأرض”، فأوقف الجنود الفتيات على بعد حوالى خمسين متراً، وبدأوا يتحدثون معهن ثم أطلقوا النار عليهنّ فقتلوهن، وبعد مرور الوقت، استيقظت، فوجدت نفسي في المستشفى.

3-11-2-  المحكمة المسرحية

كانت هذه شهادات ميدانية لبعض المواطنين العرب الذين نجوا من تلك المذبحة الرهيبة بأعجوبة، وقد هزت هذه المذبحة كافة السكان العرب في مختلف أنحاء الوطن المحتل، والرأي العام العربي.

أما على صعيد الكيان الصهيوني، فقد أمر رئيس الوزراء في حينه دافيد بن غوريون بتشكيل ما أسماه بلجنة تحقيق “شكلية” لامتصاص نقمة السكان العرب والرأي العام، ولم تصدر سلطات الاحتلال بياناً رسمياً حول المذبحة إلا يوم 12/11/1956.

ولم تذكر في هذا البيان عدد المواطنين الذين قتلوا برصاص الجنود.. وأجرت لجنة التحقيق المذكورة تحقيقها الصوري وأوصت في ختامه بتقديم مرتكبي المذبحة للمحاكمة، ولكنها لم تنشر أسماءهم، وطالب موشيه ديان بعقد جلسات مغلقة للمحاكمة. وفي كانون الثاني من العام 1957، أي بعد المذبحة بحوالى شهرين، بدأت “محاكمة كفر قاسم”، فقُدِّم أمام المحكمة 11 ضابطاً وجندياً من حرس الحدود وكان على رأسهم المقدم “يششكار شدمي” الذي اعتبر المتهم الأول، الرائد “غبرائيل دهان” المجرم الثاني.

واستمرت محاكمتهم حوالى سنتين كاملتين، وفي النهاية أصدرت المحكمة المسرحية التي عقدت لنفث سموم الحقد والعنصرية ضد العرب، أحكاماً بدت ظاهرياً قاسية لإسكات الرأي العام العربي والعالمي، وكانت كالتالي:

–          حكم  على الرائد شموئيل ميلنكي بالسجن 17 عاماً بتهمة قتل 43 مواطناً عربياً من كفر قاسم.

–          وحكم على الرائد دهان بالسجن لمدة 15 عاماً بتهمة قتل 22 مواطناً عربياً.

–          وحكم على الجندي شالوم عوفر بالسجن 15 عاماً بتهمة قتل 22 عربياً.

–         وحكم على الجنديين مخلوف حروش والياهو إبراهام بالسجن سبع سنوات لكل منهما بتهمة قتل 22 عربياً.

–          وغير ذلك من الأحكام الصورية التي صدرت ضد عدد من الجنود.

–          أما المقدم شدمي، المجرم الأول، فقد قررت المحكمة تغريمه بمبلغ “عشرة أغورات” – أي ما يعادل قرشاً واحداً فقط – بتهمة قتل كل المواطنين العرب الذين سقطوا في مذبحة كفر قاسم.

وبعد مرور وقت قصير، استأنف المحكومون الصهاينة الأحكام لدى المحكمة العليا التي خففتها،

 فخفضت حكم ميلنكي إلى 14 عاماً، ودهان إلى 10 أعوام، وباقي المتهمين إلى 3 أعوام.

وبعد ذلك جاء رئيس الأركان حينها حاييم لاسكوف وخفف أحكامهم مرة أخرى.

ولم يمض عام واحد منذ صدور الأحكام ضدهم، إلا وأطلق سراحهم جميعاً من السجن، الأمر الذي يذكّرنا هنا بما يجري ويقترف في هذه الأيام من جرائم حرب ضد الفلسطينيين.

ولاستكمال المهزلة، قامت بلدية الرملة بتعيين الرائد دهان، بعد إطلاق سراحه بثلاثة أشهر، في منصب المسؤول عن الشؤون العربية في بلدية الرملة.

3-11-3-  تخليد ذكراهم

أما أهالي كفر قاسم ومختلف مدن وقرى فلسطين المحتلة، فقد حرصوا على إحياء ذكرى شهداء تلك المذبحة المروعة، كما حرصت الجماهير العربية على إحياء القضية الفلسطينية باستمرار وتأكيد وحدة المصير والمعاناة والموقف والنضال بين كافة أبناء الشعب العربي الفلسطيني. كما يتجلى هذا المضمون في أنحاء الوطن المحتل في ظل مسيرة التصدي والصمود المستمرة ضد الاحتلال.